فصل: ذكر زوجاته وأبنائه وبناته

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين وفيها كانت فتوحات كثيرة

منها‏:‏ فتح همدان ثانية ثم الري وما بعدها ثم أذربيجان‏.‏

قال الواقدي وأبو معشر‏:‏ كانت في سنة ثنتين وعشرين‏.‏

وقال سيف‏:‏ كانت في سنة ثماني عشرة بعد فتح همدان والري وجرجان‏.‏

وأبو معشر يقول‏:‏ بأن أذربيجان كانت بعد هذه البلدان، ولكن عنده أن الجميع كان في هذه السنة‏.‏

وعند الواقدي‏:‏ أن فتح همدان والري في سنة ثلاث وعشرين، فهمدان افتتحها المغيرة بعد مقتل عمر بستة أشهر، قال‏:‏ ويقال‏:‏ كان فتح الري قبل وفاة عمر سنتين، إلا أن الواقدي وأبا معشر متفقان على أن أذربيجان في هذه السنة، وتبعهما ابن جرير وغيره‏.‏

وكان السبب في ذلك أن المسلمين لما فرغوا من نهاوند وما وقع من الحرب المتقدم، فتحوا حلوان وهمذان بعد ذلك‏.‏ ثم إن أهل همذان نقضوا عهدهم الذي صالحهم عليه القعقاع بن عمرو، فكتب عمر إلى نعيم بن مقرن أن يسير إلى همذان، وأن يجعل على مقدمته أخاه سويد بن مقرن، وعلى مجنبتيه ربعي بن عامر الطائي، ومهلهل بن زيد التميمي‏.‏

فسار حتى نزل على ثنية العسل ثم تحدر على همذان، واستولى على بلادها وحاصرها فسألوه الصلح فصالحهم، ودخلها فبينما هو فيها ومعه اثني عشر ألفاً من المسلمين، إذ تكاتف الروم والديلم وأهل الري وأهل أذربيجان، واجتمعوا على حرب نعيم بن مقرن في جمع كثير، فعلى الديلم ملكهم واسمه‏:‏ موتا، وعلى أهل الري أبو الفَرُّخان، وعلى أذربيجان أسفندياذ أخو رستم‏.‏

فخرج إليهم بمن معه من المسلمين حتى التقوا بمكان يقال له‏:‏ واج الروذ، فاقتتلوا قتالاً شديداً وكانت وقعة عظيمة تعدل نهاوند، ولم تك دونها فقتلوا من المشركين جمعاً كثيراً وجمعاً صغيراً لا يحصون كثرة، وقتل ملك الديلم موتاً وتمزق شملهم، وانهزموا بأجمعهم، مد من قتل بالمعركة منهم، فكان نعيم بن مقرن أول من قاتل الديلم من المسلمين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 137‏)‏

وقد كان نعيم كتب إلى عمر يعلمه باجتماعهم فهمه ذلك واغتم له‏.‏ فلم يفجأه إلا البريد بالبشارة فحمد الله وأثنى عليه، وأمر بالكتاب فقرئ على ناس، ففرحوا وحمدوا الله عز وجل‏.‏

ثم قدم عليه بالأخماس ثلاثة من الأمراء وهم‏:‏ سماك بن خرشة، ويعرف‏:‏ بأبي دجانة، وسماك بن عبيد، وسماك بن مخرمة، فلما استسماهم عمر قال‏:‏ اللهم اسمك بهم الإسلام، وأمد بهم الإسلام‏.‏

ثم كتب إلى نعيم بن مقرن بأن يستخلف على همذان ويسير إلى الري فامتثل نعيم‏.‏ وقد قال نعيم في هذه الوقعة‏:‏

ولما أتاني أن موتاً ورهطه * بني باسل جروا جنود الأعاجمِ

نهضت إليهم بالجنود مسامياً * لأمنع منهم ذمتي بالقواصمِ

فجئنا إليهم بالحديد كأننا * جبال تراءى من فروع القلاسمِ

فلما لقيناهم بها مستفيضة * وقد جعلوا يسمعون فعل المساهمِ

صدمناهم في واج روذ بجمعنا * غداة رميناهم بإحدى العظائمِ

فما صبروا في حومة الموت ساعة * لحد الرماح والسيوف الصوارمِ

كأنهم عند انبثاث جموعهم * جدار تشظى لَبْنُهُ للهادمِ

أصبنا بها موتاً ومن لف جمعة * وفيها نهاب قسمه غير عاتمِ

تبعناهم حتى أووا في شعابهم * فنقتلهم قتل الكلاب الجواحمِ

كأنهم في واج روذ وجوه * ضئين أصابتها فروج المخارمِ

 فتح الري

استخلف نعيم بن مقرن على همذان يزيد بن قيس الهمداني، وسار بالجيوش حتى لحق الري فلقي هناك جمعاً كثيراً من المشركين، فاقتتلوا عند سفح جبل الري، فصبروا صبراً عظيماً ثم انهزموا، فقتل منهم النعيم بن مقرن مقتلة عظيمة، بحيث عدوا بالقصب فيها، وغنموا منهم غنيمة عظيمة قريباً مما غنم المسلمون من المدائن‏.‏

وصالح أبو الفرخان على الري، وكتب له أماناً بذلك، ثم كتب نعيم إلى عمر بالفتح ثم بالأخماس ولله الحمد والمنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 138‏)‏

 فتح قومس

ولما ورد البشير بفتح الري وأخماسها، كتب عمر إلى نعيم بن مقرن‏:‏ أن يبعث أخاه سويد بن مقرن إلى قومس‏.‏ فسار إليها سويد، فلم يقم له شيء حتى أخذها سلماً وعسكر بها وكتب لأهلها كتاب أمان وصلح‏.‏

 فتح جرجان

لما عسر سويد بقومس بعث إليه أهل بلدان شتى منها جرجان وطبرستان وغيرها يسألونه الصلح على الجزية، فصالح الجميع وكتب لأهل كل بلدة كتاب أمان وصلح‏.‏

وحكى المدائني‏:‏ أن جرجان فتحت في سنة ثلاثين أيام عثمان فالله أعلم‏.‏

 وهذا فتح أذربيجان

لما افتتح نعيم بن مقرن همذان ثم الري، وكان قد بعث بين يديه بكير بن عبد الله، من همذان إلى أذربيجان، وأردفه بسماك بن خرشة، فلقي أسفندياذ بن الفرخزاذ بكيراً وأصحابه، قبل أن يقدم عليهم سماك، فاقتتلوا فهزم الله المشركين، وأسر بكير أسفندياذ‏.‏

فقال له أسفندياذ‏:‏ الصلح أحب إليك أم الحرب‏؟‏

قال‏:‏ بل الصلح‏.‏

قال‏:‏ فأمسكني عندك، فأمسكه، ثم جعل يفتح بلداً بلداً، وعتبة بن فرقد أيضاً، يفتح معه بلداً بلداً في مقابلته من الجانب الآخر‏.‏

ثم جاء كتاب عمر بأن يتقد بكير إلى الباب وجعل سماك موضعه نائباً لعبته بن فرقد، وجمع عمر أذربيجان كلها لعتبة بن فرقد، وسلم إليه بكير أسفندياذ‏.‏

وسار كما أمره عمر إلى الباب‏.‏

قالوا‏:‏ وقد كان اعترض بهرام بن فرخزاذ لعتبة بن فرقد فهزمه عتبة وهرب بهرام، فلما بلغ ذلك أسفندياذ وهو في الأسر عند بكير قال‏:‏ الآن تم الصلح، وطفئت الحرب‏.‏ فصالحه فأجاب إلى ذلك كلهم‏.‏ وعادت أذربيجان سلماً‏.‏

وكتب بذلك عتبة وبكير إلى عمر، وبعثوا بالأخماس إليه، وكتب عتبة حين انتهت إمرة أذربيجان لأهلها كتاب أمان وصلح‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 139‏)‏

 فتح الباب

قال ابن جرير‏:‏ وزعم سيف‏:‏ أنه كان في هذه السنة كتب عمر بن الخطاب كتاباً بالإمرة على هذه الغزوة لسراقة بن عمرو - الملقب‏:‏ بذي النور - وجعل على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة، - ويقال له‏:‏ ذو النور أيضاً - وجعل على إحدى المجنبتين حذيفة بن أسيد، وعلى الأخرى بكير بن عبد الله الليثي - وكان قد تقدمهم إلى الباب - وعلى المقاسم سلمان بن ربيعة‏.‏

فساروا كما أمرهم عمر وعلى تعبئته، فلما انتهى مقدم العساكر - وهو عبد الرحمن بن ربيعة - إلى الملك الذي هناك عند الباب وهو شهربراز ملك أرمينية، وهو من بيت الملك الذي قتل بني إسرائيل، وغزا الشام في قديم الزمان، فكتب شهربراز لعبد الرحمن واستأمنه، فأمنه عبد الرحمن بن ربيعة‏.‏

فقدم عليه الملك فأنهى إليه أنّ صغوه إلى المسلمين، وأنه مناصح للمسلمين‏.‏ فقال له‏:‏ إن فوقي رجلاً فاذهب إليه‏.‏

فبعثه إلى سراقة بن عمرو وأمير الجيش، فسأل من سراقة الأمان، فكتب إلى عمر فأجاز ما أعطاه من الأمان، واستحسنه، فكتب له سراقة كتاباً بذلك‏.‏

ثم بعث سراقة بكيراً، وحبيب بن مسلمة، وحذيفة بن أسيد، وسلمان بن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية، جبال اللان وتفليس وموقان، فافتتح بكير موقان، وكتب لهم كتاب أمان، ومات في غضون ذلك أمير المسلمين هناك، وهو‏:‏ سراقة بن عمرو‏.‏

واستخلف بعده عبد الرحمن بن ربيعة، فلما بلغ عمر ذلك أقره على ذلك، وأمره بغزو الترك‏.‏

 أول غزو الترك

وهو تصديق الحديث المتقدم الثابت في الصحيح عن أبي هريرة وعمر بن تغلب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً عراض الوجوه، دلف الأنوف، حمر الوجوه، كأن وجوهم المجان المطرقة‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏ينتلعون الشعر‏)‏‏)‏‏.‏

لما جاء كتاب عمر إلى عبد الرحمن بن ربيعة يأمره بأن يغزو الترك، سار حتى قطع الباب قاصداً لما أمره عمر، فقال له شهربراز‏:‏ أين تريد ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ أريد ملك الترك بلنجر‏.‏

فقال له شهربراز‏:‏ إنا لنرضى منهم الموادعة ونحن من وراء الباب‏.‏

فقال له عبد الرحمن‏:‏ إن الله بعث إلينا رسولاً، ووعدنا على لسانه بالنصر والظفر، ونحن لا نزال منصورين، فقاتل الترك وسار في بلاد بلنجر مائتي فرسخ، وغزا مرات متعددة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 140‏)‏

ثم كانت له وقائع هائلة في زمن عثمان كما سنورده في موضعه إن شاء الله تعالى‏.‏

وقال سيف بن عمر‏:‏ عن الغصن بن القاسم، عن رجل، عن سلمان بن ربيعة قال‏:‏ لما دخل عليهم عبد الرحمن بن ربيعة بلادهم، حال الله بين الترك والخروج عليه، وقالوا‏:‏ ما اجترأ علينا هذا الرجل إلا ومعهم الملائكة تمنعهم من الموت‏.‏ فتحصنوا منه، وهربوا بالغنم والظفر‏.‏

ثم إنه غزاهم غزوات في زمن عثمان فظفر بهم كما كان يظفر بغيرهم‏.‏ فلما ولي عثمان على الكوفة بعض من كان ارتد، غزاهم فتذامرت الترك، وقال بعضهم لبعض‏:‏ إنهم لا يموتون‏.‏

قال‏:‏ انظروا وفعلوا فاختفوا لهم في الغياض، فرمى رجل منهم رجلاً من المسلمين على غرةٍ فقتله وهرب عنه أصحابه، فخرجوا على المسلمين بعد ذلك حتى عرفوا أن المسلمين يموتون، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ونادى مناد من الجو صبراً آل عبد الرحمن موعدكم الجنة‏.‏

فقاتل عبد الرحمن حتى قتل، وانكشف الناس وأخذ الراية سلمان بن ربيعة فقاتل بها، ونادى المنادي من الجو صبراً آل سلمان بن ربيعة، فقاتل قتالاً شديداً‏.‏

ثم تحيز سلمان، وأبو هريرة بالمسلمين، وفروا من كثرة الترك، ورميهم الشديد السديد على جيلان، فقطعوها إلى جرجان، واجترأت الترك بعدها، ومع هذا أخذت الترك عبد الرحمن بن ربيعة فدفنوه في بلادهم، فهم يستسقون بقبره إلى اليوم، وسيأتي تفصيل ذلك كله‏.‏

 قصة السد

ذكر ابن جرير بسنده‏:‏ أن شهربراز قال لعبد الرحمن بن ربيعة لما قدم عليه حين وصل إلى الباب وأراه رجلاً فقال شهربراز‏:‏ أيها الأمير، إن هذا الرجل كنت بعثته نحو السد، وزودته مالاً جزيلاً وكتبت له إلى الملوك الذين يولوني، وبعثت لهم هدايا، وسألت منهم أن يكتبوا له إلى من يليهم من الملوك حتى ينتهي إلى سد ذي القرنين، فينظر إليه ويأتينا بخبره‏.‏

فسار حتى انتهى إلى الملك الذي السد في أرضه، فبعثه إلى عامله مما يلي السد، فبعث معه بازياره ومعه عقابه، فلما انتهوا إلى السد إذا جبلان بينهما سد مسدود، حتى ارتفع على الجبلين، وإذا دون السد خندق أشد سواداً من الليل لبعده، فنظر إلى ذلك كله وتفرس فيه، ثم لما هم بالانصراف، قال له البازيار‏:‏ على رسلك، ثم شرح بضعة لحم معه فألقاها في ذلك الهواء، وانقض عليها العقاب‏.‏

فقال‏:‏ إن أدركتها قبل أن تقع فلا شيء، وإن لم تدركها حتى تقع فذلك شيء‏.‏

قال‏:‏ فلم تدركها حتى وقعت في أسفله واتبعها العقاب فأخرجها، فإذا فيها ياقوتة وهي هذه، ثم ناولها الملك شهربراز لعبد الرحمن بن ربيعة فنظر إليها عبد الرحمن ثم ردها إليه، فلما ردها إليه فرح، وقال‏:‏ والله لهذه خير من مملكة هذه المدينة - يعني‏:‏ مدينة باب الأبواب التي هو فيها - وهي هذه خير من مملكة هذه المدينة - يعني‏:‏ مدينة باب الأبواب التي خبرها - ووالله لأنتم أحب إلي اليوم من مملكة آل كسرى، ولو كنت في سلطانهم وبلغهم خبرها لانتزعوها مني‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 141‏)‏

وأيم الله، لا يقوم لكم شيء ما وفيتم وفي ملككم، الأكبر‏.‏

ثم أقبل عبد الرحمن بن ربيعة على الرسول الذي ذهب على السد فقال‏:‏ ما حال هذا الردم‏؟‏ - يعني‏:‏ ما صفته - فأشار إلى ثوب في زرقه وحمرة فقال‏:‏ مثل هذا‏.‏

فقال رجل لعبد الرحمن‏:‏ صدق والله لقد نفذ ورأى‏.‏

فقال‏:‏ أجل وصف صفة الحديد والصفر‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 96‏]‏ وقد ذكرت صفة السد في التفسير، وفي أوائل هذا الكتاب‏.‏

وقد ذكر البخاري في صحيحه تعليقاً‏:‏ أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم رأيت السد‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏كيف رأيته ‏؟‏‏)‏‏)‏

قال‏:‏ مثل البرد المحبر رأيته‏.‏

قالوا‏:‏ ثم قال عبد الرحمن بن ربيعة لشهربراز‏:‏ كم كانت هديتك‏؟‏

قال‏:‏ قيمة مائة ألف في بلادي وثلاثة آلاف ألف في تلك البلدان‏.‏

بقية من خبر السد

أورد شيخنا أبو عبد الله الذهبي الحافظ في هذه السنة ما ذكره صاحب كتاب ‏(‏مسالك الممالك‏)‏ عما أملاه عليه سلام الترجمان، حين بعثه الواثق بأمر الله بن المعتصم - وكان قد رأى في النوم كأن السد قد فتح -فأرسل سلاماً هذا، وكتب له إلى الملوك بالوصاة به، وبعث معه ألفي بغل تحمل طعاماً فساروا بين سامراً إلى إسحاق بتفليس، فكتب لهم إلى صاحب السرير، وكتب لهم صاحب السرير إلى ملك اللان، فكتب لهم إلى قبلان شاه، فكتب لهم إلى ملك الخزر، فوجه معه خمسة أولاد فساروا ستة وعشرين يوماً‏.‏

انتهوا إلى أرض سوداء منتنة حتى جعلوا يشمون الخل، فساروا فيها عشرة أيام، فانتهوا إلى مدائن خراب مدة سبعة وعشرين يوماً، وهي التي كانت يأجوج و مأجوج تطرقها فخربت من ذلك الحين و إلى الآن، ثم انتهوا إلى حصن قريب من السد، فوجدوا قوماً يعرفون بالعربية و بالفارسية و يحفظون القرآن، ولهم مكاتب و مساجد، فجعلوا يعجبون منهم و يسألونهم من أين أقبلوا‏؟‏

فذكروا لهم أنهم من جهة أمير المؤمنين الواثق، فلم يعرفوه بالكلية‏.‏

ثم انتهوا إلى جبل أملس ليس عليه خضراً، و إذا السد هنالك من لبن حديد مغيب في نحاس، و هو مرتفع جداً لا يكاد البصر ينتهي إليه، وله شرفات من حديد، وفي وسطه باب عظيم بمصراعين مغلقين، عرضهما مائة ذراع، في طول مائة ذراع، في ثخانة خمسة أذرع، و عليه قفل طوله سبعة أذرع في غلظ باع - وذكر أشياء كثيرة - و عند ذلك المكان حرس يضربون عند القفل في كل يوم فيسمعون بعد ذلك صوتاً عظيماً مزعجاً، ويقال‏:‏ أن وراء هذا الباب حرس وحفظة، وقريب من هذا الباب حصنان عظيمان بينهما عين ماء عذبة، وفي إحداهما بقايا العمارة من مغارف ولبن من حديد وغير ذلك، وإذا طول اللبنة ذراع ونصف في مثله، في سمك شبر‏.‏

وذكروا‏:‏ أنهم سألوا أهل تلك البلاد هل رأوا أحداً من يأجوج ومأجوج ‏؟‏

فأخبروهم أنهم رأوا منهم يوماً أشخاصاً فوق الشرفات فهبت الريح فألقتهم إليهم، فإذا طول الرجل منهم شبر أو نصف شبر‏.‏ والله أعلم‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفي هذه السنة غزا معاوية الصائفة من بلاد الروم، وكان معه حماد والصحابة فسار وغنم ورجع سالماً‏.‏

وفيها‏:‏ ولد يزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس عمر بن الخطاب، وكان عماله فيها على البلاد، وهم الذين كانوا في السنة قبلها‏.‏

وذكر‏:‏ أن عمر عزل عماراً في هذه السنة عن الكوفة اشتكاه أهلها وقالوا‏:‏ لا يحسن السياسة، فعزله وولى أبا موسى الأشعري، فقال أهل الكوفة‏:‏ لا نريده، وشكوا من غلامه‏.‏

فقال‏:‏ دعوني حتى أنظر في أمري، وذهب إلى طائفة من المسجد ليفكر من يولي‏.‏ فنام من الهم، فجاءه المغيرة فجعل يحرسه حتى استيقظ‏.‏

فقال له‏:‏ إن هذا الأمر عظيم يا أمير المؤمنين الذي بلغ بك هذا‏.‏

قال‏:‏ وكيف وأهل الكوفة مائة ألف لا يرضون أمير المؤمنين، ولا يرضى عنهم أمير‏.‏

ثم جمع الصحابة واستشارهم هل يولي عليهم قوياً مشدداً أو ضعيفاً مسلماً‏؟‏

فقال له المغيرة بن شعبة‏:‏ يا أمير المؤمنين، إن القوي قوته لك وللمسلمين وتشديده لنفسه، وأما الضعيف المسلم فضعفه عليك وعلى المسلمين وإسلامه لنفسه‏.‏

فقال عمر للمغيرة - واستحسن ما قال له -‏:‏ اذهب فقد وليتك الكوفة‏.‏

فرده إليها بعد ما كان عزله عنها بسبب ما كان شهد عليه الذين تقدم حدهم بسبب قذفه، والعلم عند الله عز وجل‏.‏

وبعث أبا موسى الأشعري إلى البصرة فقيل لعمار‏:‏ أساءك العزل ‏؟‏

فقال‏:‏ والله ما سرتني الولاية، ولقد ساءني العزل‏.‏

وفي رواية‏:‏ أن الذي سأله عن ذلك عمر رضي الله عنه، ثم أراد عمر أن يبعث سعد بن أبي وقاص على الكوفة بدل المغيرة فعاجلته المنية سنة ثلاث وعشرين على ما سيأتي بيانه، ولهذا أوصى لسعد به‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وفي هذه السنة غزا الأحنف بن قيس بلاد خراسان، وقصد البلد الذي فيه يزدجرد ملك الفرس‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وزعم سيف أن هذا كان في سنة ثماني عشرة‏.‏

قلت‏:‏ والأول هو المشهور والله أعلم‏.‏

 قصة يزدجرد بن شهريار بن كسرى

لما استلب سعد من يديه مدينة ملكه، ودار مقره، وإيوان سلطانه، وبساط مشورته وحواصله، تحول من هناك إلى حلوان، ثم جاء المسلمون ليحاصروا حلوان فتحول إلى الري، وأخذ المسلمون حلوان ثم أخذت الري فتحول منها إلى أصبهان فأخذت أصبهان‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/143‏)‏

فسار إلى كرمان فقصد المسلمون كرمان فافتتحوها، فانتقل إلى خراسان فنزلها‏.‏

هذا كله والنار التي يعبدها من دون الله يسير بها معه من بلد إلى بلد، ويبني لها في كل بيت توقد فيهم على عادتهم، وهو يحمل في الليل في مسيره إلى هذا البلدان على بعير عليه هودج ينام فيه‏.‏

فبينما هو ذات ليلة في هودجه وهو نائم فيه، إذا مروا به على مخاضة، فأرادوا أن ينبهوه قبلها لئلا ينزعج إذا استيقظ في المخاضة، فلما أيقظوه تغضب عليهم شديداً وشتمهم، وقال‏:‏ حرمتموني أن أعلم مدة بقاء هؤلاء في هذه البلاد وغيرها، إني رأيت في منامي هذا أني ومحمداً عند الله، فقال له‏:‏ ملككم مائة سنة‏.‏

فقال‏:‏ زدني‏.‏

فقال‏:‏ عشراً ومائة‏.‏

فقال‏:‏ زدني‏.‏

فقال‏:‏ عشرين ومائة سنة‏.‏

فقال‏:‏ زدني‏.‏

فقال‏:‏ لك، وأنبهتموني فلو تركتموني لعلمت مدة هذه الأمة‏.‏

 خراسان مع الأحنف بن قيس

وذلك أن الأحنف بن قيس هو الذي أشار على عمر بأن يتوسع المسلمون بالفتوحات في بلاد العجم، ويضيقوا على كسرى يزدجرد فإنه هو الذي يستحث الفرس والجنود على قتال المسلمين‏.‏

فأذن عمر بن الخطاب في ذلك عن رأيه، وأمر الأحنف، وأمره بغزو بلاد خراسان‏.‏

فركب الأحنف في جيش كثيف إلى خراسان قاصداً حرب يزدجرد، فدخل خراسان فافتتح هراة عنوة، واستخلف عليها صحار بن فلان العبدي، ثم سار إلى مرو الشاهجان وفيها يزدجرد‏.‏

وبعث الأحنف بين يديه مطرف بن عبد الله بن الشخير إلى نيسابور، والحارث بن حسان إلى سرخس‏.‏

ولما اقترب الأحنف من مرو الشاهجان ترحل منها يزدجرد إلى مرو الروذ، فافتتح الأحنف مرو الشاهجان، فنزلها‏.‏

وكتب يزدجرد حين نزل مرو الروذ إلى خاقان ملك الترك يستمده، وكتب إلى ملك الصفد يستمده، وكتب إلى ملك الصين يستعينه‏.‏

وقصده الأحنف بن قيس إلى مرو الروذ وقد استخلف على مرو الشاهجان حارثة بن النعمان، وقد وفدت إلى الأحنف أمداد من أهل الكوفة مع أربعة أمراء، فلما بلغ مسيره إلى يزدجرد، ترحل إلى بلخ، فالتقى معه ببلخ يزدجرد فهزمه الله عز وجل، وهرب هو ومن بقي معه من جيشه، فعبر النهر، واستوثق ملك خراسان على يدي الأحنف بن قيس، واستخلف في كل بلدة أميراً، ورجع الأحنف فنزل مرو الروذ، وكتب إلى عمر بما فتح الله عليه من بلاد خراسان بكمالها‏.‏

فقال عمر‏:‏ وددت أنه كان بيننا وبين خراسان بحر من نار‏.‏

فقال له علي‏:‏ ولم يا أمير المؤمنين‏؟‏

فقال‏:‏ إن أهلها سينقضون عهدهم ثلاث مرات فيجتاحون في الثالثة، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، لأن يكون ذلك بأهلها، أحب إلي من أن يكون ذلك بالمسلمين‏.‏

وكتب عمر إلى الأحنف ينهاه عن العبور إلى ما وراء النهر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/144‏)‏

وقال‏:‏ احفظ ما بيدك من بلاد خراسان‏.‏

ولما وصل رسول يزدجرد إلى اللذين استنجد بهما لم يحتفلا بأمره، فلما عبر يزدجرد النهر ودخل في بلادهما تعين عليهما إنجاده في شرع الملوك، فسار معه خاقان الأعظم ملك الترك، ورجع يزدجرد بجنود عظيمة فيهم ملك التتار خاقان، فوصل إلى بلخ واسترجعها، وفر عمال الأحنف إليه إلى مرو الروذ، وخرج المشركون من بلخ حتى نزلوا على الأحنف بمرو الروذ فتبرز الأحنف بمن معه من أهل البصرة وأهل الكوفة، والجميع عشرون ألفاً، فسمع رجلاً يقول لآخر‏:‏ إن كان الأمير ذا رأي فإنه يقف دون هذا الجبل فيجعله وراء ظهره، ويبقى هذا النهر خندقاً حوله فلا يأتيه العدو إلا من جهة واحدة‏.‏

فلما أصبح الأحنف أمر المسلمين فوقفوا في ذلك الموقف بعينه، وكان أمارة النصر والرشد، وجاءت الأتراك والفرس في جمع عظيم هائل مزعج، فقام الأحنف في الناس خطيباً فقال‏:‏ إنكم قليل وعدوكم كثير، فلا يهولنكم ‏{‏كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 249‏]‏ فكانت الترك يقاتلون بالنهار، ولا يدري الأحنف أين يذهبون في الليل‏.‏

فسار ليلة مع طليعة من أصحابه نحو جيش خاقان، فلما كان قريب الصبح خرج فارس من الترك طليعة وعليه طوق وضرب بطبله، فتقدم إليه الأحنف فاختلفا طعنتين فطعنه الأحنف فقتله، وهو يرتجز‏:‏

إن على كل رئيس حقاً * أن يخضب الصعدة أو يندقا

إن لها شيخاً بها ملقى * بسيف أبي حفص الذي تبقى

قال‏:‏ ثم استلب التركي طوقه ووقف موضعه، فخرج آخر علم طوق ومعه طبل فجعل يضرب بطبله، فتقدم إليه الأحنف فقتله أيضاً واستلبه طوقه ووقف موضعه، فخرج ثالث فقتله، وأخذ طوقه‏.‏

ثم أسرع الأحنف الرجوع إلى جيشه ولا يعلم بذلك أحد من الترك بالكلية‏.‏

وكان من عادتهم أنهم لا يخرجون من صبيتهم حتى تخرج ثلاثة من كهولهم بين أيديهم، يضرب الأول بطبله، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم يخرجون بعد الثالث‏.‏

فلما خرجت الترك ليلتئذٍ بعد الثالث، فأتوا على فرسانهم مقتلين، تشاءم بذلك الملك خاقان وتطير، وقال لعسكره‏:‏ قد طال مقامنا، وقد أصيب هؤلاء القوم بمكان لم نصب بمثله‏.‏

ما لنا في قتال هؤلاء القوم من خير، فانصرفوا بنا‏.‏

فرجعوا إلى بلادهم، وانتظرهم المسلمون يومهم ذلك ليخرجوا إليهم من شعبهم فلم يروا أحداً منهم، ثم بلغهم انصرافهم إلى بلادهم راجعين عنهم، وقد كان يزدجرد - وخاقان في مقابلة الأحنف بن قيس ومقاتلته - ذهب إلى مرو الشاهجان فحاصرها وحارثة بن النعمان بها، واستخرج منها خزانته التي كان دفنها بها، ثم رجع وانتظره خاقان ببلخ حتى رجع إليه‏.‏

وقد قال المسلمون للأحنف‏:‏ ما ترى في اتباعهم‏؟‏

فقال‏:‏ أقيموا بمكانكم ودعوهم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/145‏)‏

وقد أصاب الأحنف في ذلك، فقد جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏‏(‏اتركوا الترك ما تركوكم‏)‏‏)‏‏.‏

وقد ‏(‏‏(‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً‏)‏‏)‏‏.‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25‏]‏

ورجع كسرى خاسراً الصفقة، لم يشف له غليل، ولا حصل على خير ولا انتصر، كما كان في زعمه، بل تخلى عنه من كان يرجو النصر منه، وتنحى عنه وتبرأ منه أحوج ما كان إليه، وبقي مذبذباً لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ‏{‏وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 88‏]‏ وتحير في أمره ماذا يصنع‏؟‏ وإلى أين يذهب ‏؟‏‏.‏

وقد أشار عليه بعض أولي النهي من قومه حين قال‏:‏ قد عزمت أن أذهب إلى بلاد الصين أو أكون مع خاقان في بلاده‏.‏

فقالوا‏:‏ إنا نرى أن نصانع هؤلاء القوم فإن لهم ذمة وديناً يرجعون إليه، فنكون في بعض هذه البلاد وهم مجاورينا، فهم خير لنا من غيرهم‏.‏ فأبى عليهم كسرى ذلك‏.‏

ثم بعث إلى ملك الصين يستغيث به ويستنجده، فجعل ملك الصين يسأل الرسول عن صفة هؤلاء القوم الذين قد فتحوا البلاد وقهروا رقاب العباد، فجعل يخبره عن صفتهم، وكيف يركبون الخيل والإبل‏؟‏ وماذا يصنعون‏؟‏ وكيف يصلون ‏؟‏‏.‏

فكتب معه إلى يزدجرد‏:‏ أنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علي، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك صفتهم لو يحاولون الجبال لهدوها، ولو جئت لنصرك أزالوني ماداموا على ما وصف لي رسولك، فسالمهم وأرض منهم بالمسالمة‏.‏

فأقام كسرى وآل كسرى في بعض البلاد مقهورين‏.‏ ولم يزل ذلك دأبه حتى قتل بعد سنتين من إمارة عثمان كما سنورده في موضعه‏.‏

ولما بعث الأحنف بكتاب الفتح وما أفاء الله عليهم من أموال الترك، ومن كان معهم، وأنهم قتلوا منهم مع ذلك مقتله عظيمة، ثم ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً‏.‏ فقام عمر على المنبر وقرئ الكتاب بين يديه، ثم قال عمر‏:‏ إن الله بعث محمداً بالهدى ووعد على أتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة‏.‏

فقال‏:‏ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون فالحمد لله الذي أنجز وعده ونصر جنده، ألا وإن الله قد أهلك ملك المجوسية، فرق شملهم فليسوا يملكون من بلادهم شبراً يضير بمسلم‏.‏

ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، فقوموا في أمره على وجل، يوف لكم بعهده ويؤتكم وعده ولا تغيروا يستبدل قوماً غيركم، فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم‏.‏

وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي الحافظ في تاريخ هذه السنة - أعني سنة ثنتين وعشرين - وفيها‏:‏ فتحت أذربيجان على يدي المغيرة بن شعبة قاله ابن إسحاق‏.‏ فيقال‏:‏ أنه صالحهم على ثمانمائة ألف درهم‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ فتحها حبيب بن سلمة الفهري بأهل الشام عنوة، ومعه أهل الكوفة فيهم حذيفة، فافتتحها بعد قتال شديد والله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ افتتح حذيفة الدينور عنوة - بعدما كان سعد افتتحها فانتقضوا عهدهم -‏.‏

وفيها‏:‏ افتتح حذيفة ماه سندان عنوة - وكانوا نقضوا أيضاً عهد سعد - وكان مع حذيفة أهل البصرة فلحقهم أهل الكوفة فاختصموا في الغنيمة، فكتب عمر‏:‏ أن الغنيمة لمن شهد الوقعة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 146‏)‏

قال أبو عبيدة‏:‏ ثم غزا حذيفة همذان فافتتحها عنوة، ولم تكن فتحت قبل ذلك، وإليها انتهى فتوح حذيفة‏.‏ قال‏:‏ ويقال‏:‏ افتتحها جرير بن عبد الله بأمر المغيرة‏.‏

ويقال‏:‏ افتتحها المغيرة سنة أربع وعشرين‏.‏

وفيها‏:‏ افتتحت جرجان‏.‏

قال خليفة‏:‏ وفيها‏:‏ افتتح عمرو بن العاص طرابلس المغرب‏.‏

ويقال‏:‏ في السنة التي بعدها‏.‏

قلت‏:‏ وفي هذا كله غرابة لنسبته إلى ما سلف والله أعلم‏.‏

قال شيخنا‏:‏ وفيها‏:‏ توفي أبي بن كعب في قول الواقدي وابن نمير والذهلي والترمذي، وقد تقدم في سنة تسع عشرة، ومعضد بن يزيد الشيباني استشهد بأذربيجان، ولا صحبه له‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين

 وفيها‏:‏ وفاة عمر بن الخطاب

قال الواقدي وأبو معشر‏:‏ فيها‏:‏ كان فتح اصطخر وهمذان‏.‏

وقال سيف‏:‏ كان فتحها بعد فتح تَوَّج الآخرة‏.‏

ثم ذكر أن الذي افتتح تَوَّج مجاشع بن مسعود، بعد ما قتل من الفرس مقتله عظيمة وغنم منهم غنائم جمة، ثم ضرب الجزية على أهلها، وعقد لهم الذمة، ثم بعث بالفتح وخمس الغنائم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏

ثم ذكر‏:‏ أن عثمان بن أبي العاص افتتح جور بعد قتال شديد كان عندها، ثم افتتح المسلمون اصطخر - وهذه المرة الثانية - وكان أهلها قد نقضوا العهد بعدما كان جند العلاء بن الحضرمي افتتحوها حين جاز في البحر - من أرض البحرين - والتقوا هم والفرس في مكان يقال له‏:‏ طاوس، كما تقدم بسط ذلك في موضعه‏.‏

ثم صالحه الهربد على الجزية، وأن يضرب لهم الذمة، ثم بعث بالأخماس والبشارة إلى عمر‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وكانت الرسل لها جوائز، وتقضي لهم حوائج، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاملهم بذلك‏.‏

ثم إن شهرك خلع العهد، ونقض الذمة، ونشط الفرس، فنقضوا، فبعث إليهم عثمان بن أبي العاص ابنه وأخاه الحكم، فاقتلوا مع الفرس، فهزم الله جيوش المشركين، وقتل الحكم بن أبي العاص شهرك، وقتل ابنه معه أيضاً‏.‏

وقال أبو معشر‏:‏ كانت فارس الأولى واصطخر الآخرة سنة ثمان وعشرين في إمارة عثمان، وكانت فارس الآخرة، ووقعه جور، في سنة تسع وعشرين‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 147‏)‏

 فتح فسا ودار أبجرد وقصة سارية بن زُنَيْم

ذكر سيف عن مشايخه‏:‏ أن سارية بن زنيم قصد فسا ودار أبجرد، فاجتمع له جموع - من الفرس والأكراد - عظيمة، ودهم المسلمين منهم أمر عظيم وجمع كثير، فرأى عمر في تلك الليلة فيما يرى النائم معركتهم وعددهم في وقت من النهار، وأنهم في صحراء وهناك جبل إن أسندوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد، فنادى من الغد الصلاة جامعة، حتى إذا كانت الساعة التي رأى أنهم اجتمعوا فيها، خرج إلى الناس وصعد المنبر، فخطب الناس وأخبرهم بصفة ما رأى، ثم قال‏:‏ يا سارية الجبلَ الجبلَ، ثم أقبل عليهم، وقال‏:‏ إن لله جنوداً ولعل بعضها أن يبلغهم‏.‏

قال‏:‏ ففعلوا ما قال عمر، فنصرهم الله على عدوهم، وفتحوا البلد‏.‏

وذكر سيف في رواية أخرى عن شيوخه‏:‏ أن عمر بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ قال‏:‏ يا سارية بن زُنَيم، الجبلَ الجبلَ‏.‏

فلجأ المسلمون إلى جبل هناك فلم يقدر العدو عليهم إلا من جهة واحدة فأظفرهم الله بهم، وفتحوا البلد‏.‏

وغنموا شيئاً كثيراً، فكان من جملة ذلك سفط من جوهر فاستوهبه سارية من المسلمين لعمر، فلما وصل إليه مع الأخماس قدم الرسول بالخمس، فوجد عمر قائماً في يده عصا وهو يطعم المسلمين سماطهم، فلما رآه عمر قال له‏:‏ اجلس - ولم يعرفه - فجلس الرجل فأكل مع الناس، فلما فرغوا انطلق عمر إلى منزله واتبعه الرجل، فاستأذن فأذن له وإذا هو قد وضع له خبز وزيت وملح، فقال‏:‏ ادن فكل‏.‏

قال‏:‏ فجلست فجعل يقول لامرأته‏:‏ ألا تخرجين يا هذه فتأكلين‏؟‏

فقالت‏:‏ إني اسمع حس رجل عندك‏.‏

فقال‏:‏ أوما ترضين أن يقال أم كلثوم بنت عمر على وامرأة عمر‏.‏

فقالت‏:‏ ما أقل غناء ذلك عني‏.‏

ثم قال للرجل‏:‏ ادن فكل، فلو كانت راضية لكان أطيب مما ترى‏.‏ فـأكلا فلما فرغا قال‏:‏ أنا رسول سارية بن زنيم يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ مرحباً وأهلاً، ثم أدناه حتى مست ركبته ركبته، ثم سأله عن المسلمين، ثم سأله عن سارية بن زنيم فأخبره، ثم ذكر له شأن السفط من الجوهر، فأبى أن يقبله، وأمر برده إلى الجند‏.‏

وقد سأل أهل المدينة رسول سارية عن الفتح فأخبرهم فسألوه‏:‏ هل سمعوا صوتاً يوم الوقعة‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏ سمعنا قائلاً يقول‏:‏ يا سارية الجبل، وقد كدنا نهلك فلجأنا إليه، ففتح الله‏.‏

ثم رواه سيف‏:‏ عن مجالد، عن الشعبي بنحو هذا‏.‏

وقال عبد الله بن وهب‏:‏ عن يحيى بن أيوب، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر‏:‏ أن عمر وجه جيشاً، ورأس عليهم رجلاً يقال له‏:‏ سارية، قال‏:‏ فبينما عمر يخطب فجعل ينادي‏:‏ يا ساري الجبل يا ساري الجبل، ثلاثاً‏.‏

ثم قدم رسول الجيش فسأله عمر فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين هزمنا، فبينما نحن كذلك إذا سمعنا منادياً‏:‏ يا سارية الجبل ثلاثاً، فأسندنا ظهورنا بالجبل، فهزمهم الله‏.‏

قال‏:‏ فقيل لعمر‏:‏ إنك كنت تصيح بذلك‏.‏

وهذا إسناد جيد حسن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 148‏)‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني نافع بن أبي نعيم، عن نافع مولى ابن عمر أن عمر قال على المنبر‏:‏ يا سارية بن زنيم الجبل، فلم يدر الناس ما يقول حتى قدم سارية بن زنيم المدينة على عمر فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، كنا محاصري العدو فكنا نقيم الأيام لا يخرج علينا منهم أحد، نحن في خفض من الأرض وهم في حصن عال، فسمعت صائحاً ينادي بكذا وكذا‏:‏ يا سارية بن زنيم الجبل، فعلوت بأصحابي الجبل، فما كان إلا ساعة حتى فتح الله علينا‏.‏

وقد رواه الحافظ أبو القاسم اللالكائي‏:‏ من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر بنحوه، وفي صحته من حديث مالك نظر‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثني أسامة بن زيد، عن أسلم، عن أبيه، وأبو سليمان، عن يعقوب بن زيد قالا‏:‏ خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الجمعة إلى الصلاة، فصعد المنبر ثم صاح‏:‏ يا سارية بن زنيم الجبل، يا سارية بن زنيم الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم، ثم خطب حتى فرغ‏.‏

فجاء كتاب سارية إلى عمر‏:‏ أن الله قد فتح علينا يوم الجمعة ساعة كذا وكذا - لتلك الساعة التي خرج فيها عمر فتكلم على المنبر - قال سارية‏:‏

فسمعت صوتاً‏:‏ يا سارية بن زنيم الجبل، يا سارية بن زنيم الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم، فعلوت بأصحابي الجبل، ونحن قبل ذلك في بطن واد، ونحن محاصروا العدو، ففتح الله علينا‏.‏

فقيل لعمر بن الخطاب‏:‏ ما ذلك الكلام ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ والله ما ألقيت له إلا بشيء ألقي علي لساني‏.‏

فهذه طرق يشد بعضها بعضاً‏.‏

 فتح كرمان وسجستان ومكران

ثم ذكر ابن جرير طريق سيف عن شيوخه فتح كرمان على يدي سهيل بن عدي، وأمده عبد الله بن عبد الله بن عتبان‏.‏

وقيل‏:‏ على يدي عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وذكر فتح سجستان على يدي عاصم بن عمرو، بعد قتال شديد وكانت ثغورها متسعة، وبلادها متنائية، ما بين السند إلى نهر بلخ، وكانوا يقاتلون القُنْدُهار، والترك من ثغورها وفروجها‏.‏

وذكر فتح مكران على يدي الحكم بن عمرو، وأمده بشهاب بن المخارق بن شهاب، وسهيل بن عدي، وعبد الله بن عبد الله، واقتتلوا مع ملك السند فهزم الله جموع السند، وغنم المسلمون منهم غنيمة كثيرة، وكتب الحكم بن عمرو بالفتح، وبعث بالأخماس مع صحار العبدي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 149‏)‏

فلما قدم على عمر سأله عن أرض مكران فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أرض سهلها جبل، وماؤها وشل، وثمرها دَقَلْ، وعدوها بطل، وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، والقليل بها ضائع، وماوراءها شر منها‏.‏

فقال عمر‏:‏ أسَجَّاعٌ أنت أم مخبر ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ لا بل مخبر، فكتب عمر إلى الحكم بن عمرو أن لا يغزو بعد ذلك مكران، وليقتصروا على مادون النهر‏.‏

وقد قال الحكم بن عمر في ذلك‏:‏

لقد شبع الأرامل غير فخر * بفيء جاءهم من مكرانِ

أتاهم بعد مسغبة وجهد * وقد صَفَر الشتاء من الدخانِ

فإني لا يذم الجيش فعلي * ولا سيفي يذم ولا لساني

غداة أدافع الأوباش دفعاً * إلى السند العريضة والمداني

ومهران لنا فيما أردنا * مطيع غير مسترخي العناني

فلولا ما نهى عنه أميري * قطعناه إلى البدد الزواني

 غزة الأكراد

ثم ذكر ابن جرير بسنده عن سيف، عن شيوخه‏:‏ أن جماعة من الأكراد، والتف إليهم طائفة من الفرس اجتمعوا، فلقيهم أبو موسى بمكان من أرض بيروذ قريب من نهر تيري، ثم سار عنهم أبو موسى إلى أصبهان، وقد استخلف على حربهم الربيع بن زياد بعد مقتل أخيه المهاجر بن زياد، فتسلم الحرب وحنق عليهم، فهزم الله العدو، وله الحمد والمنة، كما هي عادته المستمرة، وسنته المستقرة، في عباده المؤمنين، وحزبه المفلحين، من أتباع سيد المرسلين‏.‏

ثم خمست الغنيمة، وبعث بالفتح والخمس إلى عمر رضي الله عنه، وقد سار ضبة بن محصن العنزي فاشتكى أبا موسى إلى عمر، وذكر عنه أموراً لا ينقم عليه بسببها، فاستدعاه عمر فسأله عنها، فاعتذر منها بوجوه مقبولة فسمعها عمرو وقبلها، ورده إلى عمله، وعذر ضبه فيما تأوله، ومات عمر وأبو موسى على صلاة البصرة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 150‏)‏

 خبر سلمة بن قيس الأشجعي والأكراد

بعثه عمر على سرية ووصاه بوصايا كثيرة بمضمون حديث بريدة في صحيح مسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏اغزوا بسم الله، قاتلوا من كفر بالله‏)‏‏)‏ الحديث إلى آخره‏.‏

فساروا فلقوا جمعاً من المشركين، فدعوهم إلى إحدى ثلاث خلال، فأبوا أن يقبلوا واحدة منها، فقاتلوهم فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا ذراريهم، وغنموا أموالهم‏.‏

ثم بعث سلمة بن قيس رسولاً إلى عمر بالفتح وبالغنائم، فذكروا وروده على عمر، وهو يطعم الناس، وذهابه معه إلى منزله، كنحو ما تقدم من قصة أم كلثوم بنت علي، وطلبها الكسوة كما يكسي طلحة وغيرة أزواجهم‏.‏

فقال‏:‏ ألا يكفيك أن يقال‏:‏ بنت علي، وامرأة أمير المؤمنين، ثم ذكر طعامه الخشن وشرابه من سلت، ثم شرع يستعمله عن أخبار المهاجرين، وكيف طعامهم وأشعارهم، وهل يأكلون اللحم الذي هو شجرتهم، ولا بقاء للعرب دونه شجرتهم، وذكر عرضه عليه ذلك السفط من الجوهر، فأبى أن يأخذه، وأقسم على ذلك، وأمره بأن يرده فيقسم بين الغانمين‏.‏

وقد أورده ابن جرير مطولاً جداً‏.‏

 وقال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة حج عمر بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي آخر حجة حجها رضي الله عنه‏.‏

قال‏:‏ وهي هذه السنة كانت وفاته، ثم ذكر صفة قتله مطولاً أيضاً، وقد ذكرت ذلك مستقصى في آخر سيرة عمر، فليكتب من هناك إلى هنا‏.‏

وهو‏:‏ عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان القرشي، أبو حفص العدوي، الملقب‏:‏ بالفاروق‏.‏

قيل‏:‏ لقبه بذلك أهل الكتاب، وأمه‏:‏ حنتمة بنت هشام أخت أبي جهل بن هشام‏.‏

أسلم عمر وعمره سبع وعشرين سنة، وشهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وخرج في عدة سرايا، وكان أميراً على بعضها، وهو أول من دعي أمير المؤمنين، وأول من كتب التاريخ، وجمع الناس على التراويح‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 151‏)‏

وأول من عس بالمدينة، وحمل الدرة وأدب بها، وجلد في الخمر ثمانين، وفتح الفتوح، ومصر الأمصار، وجند الأنجاد، ووضع الخراج، ودون الدواوين، وعرض الأعطية، واستقضى القضاة، وكور الكور، مثل‏:‏ السواد والآهواز والجبال وفارس وغيرها، وفتح الشام كله، والجزيرة، والموصل، وميافارقين، وأرمينية، ومصر، وإسكندرية‏.‏

ومات عساكره على بلاد الري‏.‏ فتح من الشام اليرموك وبصرى ودمشق والأردن وبيسان وطبرية والجابية، وفلسطين والرملة وعسقلان، وغزة، والسواحل، والقدس، وفتح مصر، وإسكندرية، وطرابلس الغرب، وبرقة‏.‏

ومن مدن الشام‏:‏ بعلبك وحمص وقنسرين وحلب وأنطاكية، وفتح الجزيرة وحران والرها والرقة ونصيبين ورأس عين وشمشاط وعين وردة وديار بكر وديار ربيعة وبلاد الموصل وأرمينية جميعها‏.‏

وبالعراق‏:‏ القادسية والحيرة ونهرسير وساباط ومدائن كسرى وكورة الفرات ودجلة والأبلة والبصرة والأهواز وفارس ونهاوند وهمذان والري وقومس وخراسان، واصطخر، وأصبهان، والسوس، ومرو، ونيسابور، وجرجان، وأذربيجان، وغير ذلك‏.‏

وقطعت جيوشه النهر مراراً، وكان متواضعاً في الله، خشن العيش، خشن المطعم، شديداً في ذات الله، يرقع الثوب بالأديم، ويحمل القربة على كتفه مع عظم هيبته، ويركب الحمار عرياً، والبعير مخطوماً بالليف، وكان قليل الضحك لا يمازح أحداً، وكان نقش خاتمه‏:‏ كفى بالموت واعظاً يا عمر‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أشد أمتي في دين الله عمر‏)‏‏)‏‏.‏

وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن لي وزيرين من أهل السماء، ووزيرين من أهل الأرض، فوزيراي من أهل السماء جبريل وميكائيل ووزيراي من أهل الأرض أبو بكر وعمر، وإنهما السمع والبصر‏)‏‏)‏‏.‏

وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الشيطان يفرق من عمر‏)‏‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أرحم أمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر‏)‏‏)‏‏.‏

وقيل لعمر‏:‏ إنك قضاء‏.‏

فقال‏:‏ الحمد لله الذي ملأ له قلبي رحماً، وملأ قلوبهم لي رعباً‏.‏

وقال عمر‏:‏ لا يحل لي من مال الله إلا حلتان‏:‏ حلة للشتاء وحلة للصيف، وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم، ثم أنا رجل من المسلمين‏.‏

وكان عمر إذا استعمل عاملاً‏:‏ كتب له عهداً وأشهد عليه رهطاً من المهاجرين، واشترط عليه أن لا يركب برذوناً، ولا يأكل نقياً، ولا يلبس رقيقاً، ولا يغلق بابه دون ذوي الحاجات‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 152‏)‏

فإن فعل شيئاً من ذلك، حملت عليه العقوبة‏.‏

وقيل‏:‏ أنه كان إذا حدثه الرجل بالحديث فيكذب فيه الكلمة والكلمتين فيقول عمر‏:‏ احبس هذه، احبس هذه، فيقول الرجل‏:‏ والله كلما حدثتك به حق غير ما أمرتني أن أحبسه‏.‏

وقال معاوية بن أبي سفيان‏:‏ أما أبو بكر فلم يرد الدنيا، وأما عمر فأرادته فلم يردها، وأما نحن فتمرغنا فيها ظهراً لبطن‏.‏

وعوتب عمر فقيل له‏:‏ لو أكلت طعاماً طيباً كان أقوى لك على الحق ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ إني تركت صاحبي على جادة، فإن أدركت جادتهما فلم أدركهما في المنزل، وكان يلبس وهو خليفة جبة صوف مرقوعة بعضها بأدم، ويطوف بالأسواق على عاتقه الدرة يؤدب بها الناس، وإذا مر بالنوى وغيره يلتقطه ويرمي به في منازل الناس ينتفعون به‏.‏

قال أنس‏:‏ كان بين كتفي عمر أربع رقاع، وإزاره بأدم‏.‏ وخطب على المنبر وعليه إزار فيه اثني عشر رقعة، وأنفق في حجته ستة عشر ديناراً، وقال لابنه‏:‏ قد أسرفنا‏.‏

وكان لا يستظل بشيء غير أنه كان يلقي كساءه على الشجرة ويستظل تحته، وليس له خيمة ولا فسطاط‏.‏

ولما قدم الشام لفتح بيت المقدس كان على جمل أورق تلوح صلعته للشمس، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة، قد طبق رجليه بين شعبي الرحل بلا ركاب، ووطاؤه كبش صوف، وهو فراشه إذا نزل، وحقيبته محشوة ليفاً، وهي وسادته إذا نام‏.‏

وعليه قميص من كرابيس قد رسم وتخرق جيبه، فلما نزل قال‏:‏ ادعوا لي رأس القرية، فدعوه‏.‏

فقال‏:‏ اغسلوا قميصي وخيطوه، وأعيروني قميصاً، فأتي بقميص كتان، فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏

فقيل‏:‏ كتان‏.‏

فقال‏:‏ فما الكتان ‏؟‏‏.‏

فأخبروه، فنزع قميصه فغسلوه وخاطوه ثم لبسه‏.‏

فقال له‏:‏ أنت ملك العرب، وهذه بلاد لا يصلح فيها ركوب الإبل‏.‏ فأتي ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل، فلما سار جعل البرذون يهملج به‏.‏

فقال لمن معه‏:‏ احبسوا، ما كنت أظن الناس يركبون الشياطين، هاتوا جملي‏.‏ ثم نزل وركب الجمل‏.‏

وعن أنس قال‏:‏ كنت مع عمر، فدخل حائطاً لحاجته، فسمعته يقول - بيني وبينه جدار الحائط - عمر بن الخطاب أمير المؤمنين‏:‏ بخ بخ، والله لتتقين الله بني الخطاب أو ليعذبنك‏.‏

وقيل‏:‏ أنه حمل قربة على عاتقه، فقيل له في ذلك، فقال‏:‏ إن نفسي أعجبتني فأردت أن أذلها ‏؟‏

وكان يصلي بالناس العشاء، ثم يدخل بيته فلا يزال يصلي إلى الفجر‏.‏

وما مات حتى سرد الصوم، وكان في عام الرمادة لا يأكل إلا الخبز والزيت، حتى أسود جلده، ويقول‏:‏ بئس الوالي أنا إن شبعت والناس جياع‏.‏

وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء، وكان يسمع الآية من القرآن فيغشى عليه، فيحمل صريعاً إلى منزله فيعاد أياما ليس به مرض إلا الخوف‏.‏

وقال طلحة بن عبد الله‏:‏ خرج عمر ليلة في سواد الليل فدخل بيتاً، فلما أصبحت ذهبت إلى ذلك البيت فإذا عجوز عمياء مقعدة، فقلت لها‏:‏ ما بال هذا الرجل يأتيكي ‏؟‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 153‏)‏

فقالت‏:‏ إنه يتعاهدني مدة كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى‏.‏

فقلت لنفسي‏:‏ ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتبع ‏؟‏‏.‏

وقال أسلم مولى عمر‏:‏ قدم المدينة رفقة من تجار فنزلوا المصلى، فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف‏:‏ هل لك أن نحرسهم الليلة ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏‏.‏

فباتا يحرسانهم ويصليان، فسمع عمر بكاء صبي فتوجه نحوه، فقال لأمه‏:‏ اتق الله تعالى وأحسني إلى صبيك‏.‏

ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه، فعاد إلى أمه فقال لها مثل ذلك، ثم عاد إلى مكانه‏.‏

فلما كان آخر الليل سمع بكاء الصبي فأتى إلى أمه، فقال لها‏:‏ ويحك إنك أم سوء مالي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة من البكاء‏؟‏‏!‏

فقالت‏:‏ يا عبد الله إن أشغله عن الطعام فيأبى ذلك‏.‏

قال‏:‏ ولم ‏؟‏‏.‏

قالت‏:‏ لأن عمر لا يفرض إلا للمفطوم‏.‏

قال‏:‏ وكم عمر ابنك هذا ‏؟‏‏.‏

قالت‏:‏ كذا وكذا شهراً‏.‏

فقال‏:‏ ويحك، لا تعجليه عن الفطام‏.‏

فلما صلى الصبح وهو لا يستبين للناس قراءته من البكاء، قال‏:‏ بؤساً لعمر كم قتل من أولاد المسلمين‏.‏

ثم أمر مناديه فنادى‏:‏ لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق‏.‏

وقال أسلم‏:‏ خرجت ليلة مع عمر إلى ظاهر المدينة، فلاح لنا بيت شعر فقصدناه، فإذا فيه امرأة تمخض وتبكي، فسألها عمر عن حالها فقالت‏:‏ أنا امرأة عربية، وليس عندي شيء، فبكى عمر، وعاد يهرول إلى بيته فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب‏:‏ هل لك في أجرٍ ساقه الله إليك‏؟‏ وأخبرها الخبر‏.‏

فقالت‏:‏ نعم، فحمل على ظهره دقيقاً وشحماً، وحملت أم كلثوم ما يصلح للولادة، وجاءا، فدخلت أم كلثوم على المرأة، وجلس عمر مع زوجها - وهو لا يعرفه - يتحدث، فوضعت المرأة غلاماً فقالت أم كلثوم‏:‏ يا أمير المؤمنين بشر صاحبك بغلام‏.‏

فلما سمع الرجل قولها استعظم ذلك، وأخذ يعتذر إلى عمر‏.‏

فقال عمر‏:‏ لا بأس عليك، ثم أوصلهم بنفقة وما يصلحهم وانصرف‏.‏

وقال أسلم‏:‏ خرجت ليلة مع عمر إلى حرة واقم، حتى إذا كنا بصرار إذا بنار، فقال‏:‏ يا أسلم، ههنا ركب قد قصر بهم الليل انطلق بنا إليهم، فأتيناهم فإذا امرأة معها صبيان لها وقدر منصوبة على النار، وصبيانها يتضاغون‏.‏

فقال عمر‏:‏ السلام عليكم يا أصحاب الضوء‏.‏

قالت‏:‏ وعليك السلام‏.‏

قال‏:‏ ادنو‏.‏

قالت‏:‏ ادن أو دع، فدنا‏.‏

فقال‏:‏ ما بالكم‏؟‏

قالت‏:‏ قصر بنا الليل والبرد‏.‏

قال‏:‏ فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون‏؟‏

قالت‏:‏ من الجوع‏.‏

فقال‏:‏ وأي شيء على النار‏.‏

قالت‏:‏ ماء أعللهم به حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر‏.‏

فبكى عمر ورجع يهرول إلى دار الدقيق، فأخرج عدلاً من دقيق وجراب شحم‏.‏

وقال‏:‏ يا أسلم، احمله على ظهري‏.‏

فقلت‏:‏ أنا أحمله عنك‏.‏

فقال‏:‏ أنت تحمل وزري يوم القيامة ‏؟‏‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 154‏)‏

فحمله على ظهره، وانطلقنا إلى المرأة، فألقي عن ظهره، وأخرج من الدقيق في القدر، وألقى عليه من الشحم، وجعل ينفخ تحت القدر والدخان يتخلل لحيته ساعة، ثم أنزلها عن النار، وقال‏:‏ ايتني بصحفة فأتي بها فغرفها، ثم تركها بين يدي الصبيان، وقال‏:‏ كلوا فأكلوا حتى شبعوا - والمرأة تدعوا له وهي لا تعرفه - فلم يزل عندهم حتى نام الصغار، ثم أوصلهم بنفقة وانصرف، ثم أقبل علي فقال‏:‏ يا أسلم، الجوع الذي أسهرهم وأبكاهم‏.‏

وقيل‏:‏ إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رأى عمر وهو يعدو إلى ظاهر المدينة، فقال له‏:‏ إلى أين يا أمير المؤمنين ‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ قد ند بعير من إبل الصدقة، فأنا أطلبه‏.‏

فقال‏:‏ قد أتعبت الخلفاء من بعدك‏.‏

وقيل‏:‏ أنه رأى جارية تتمايل من الجوع‏.‏

فقال‏:‏ من هذه ‏؟‏‏.‏

فقالت‏:‏ ابنة عبد الله هذه ابنتي‏.‏

قال‏:‏ فما بالها ‏؟‏‏.‏

فقالت‏:‏ إنك تحبس عنا ما في يدك، فيصيبنا ما ترى‏.‏

فقال‏:‏ يا عبد الله، بيني وبينكم كتاب الله، والله أعطيكم إلا ما فرض الله لكم، أتريدون مني أن أعطيكم ما ليس لكم‏؟‏ فأعود خائناً ‏؟‏

روي ذلك عن الزهري‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ حدثنا أبو حمزة يعقوب بن مجاهد عن محمد بن إبراهيم عن أبي عمر قال‏:‏ قلت لعائشة‏:‏ من سمى عمر الفاروق أمير المؤمنين ‏؟‏‏.‏

قالت‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏‏(‏أمير المؤمنين هو‏)‏‏)‏‏.‏

وأول من حياه بها المغيرة بن شعبة، وقيل‏:‏ غيره‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني أحمد بن عبد الصمد الأنصاري، حدثتني أم عمر وبنت حسان الكوفية - وكان قد أتى عليها مائة وثلاثون سنة -، عن أبيها قال‏:‏ لما ولي عمر قالوا‏:‏ يا خليفة خليفة رسول الله ‏؟‏‏.‏

فقال عمر‏:‏ هذا أمر يطول، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم، فسمي أمير المؤمنين‏.‏

وملخص ذلك‏:‏ أنه رضي الله عنه لما فرغ من الحج سنة ثلاث وعشرين ونزل بالأبطح، دعا الله عز وجل، وشكا إليه أنه قد كبرت سنه وضعفت قوته، وانتشرت رعيته، وخاف من التقصير، وسأل الله أن يقبضه إليه، وأن يمن عليه بالشهادة في بلد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

كما ثبت عنه في الصحيح‏:‏ أنه كان يقول‏:‏ اللهم إني أسالك شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك، فاستجاب له الله هذا الدعاء، وجمع له بين هذين الأمرين الشهادة في المدينة النبوية، وهذا عزيز جداً‏.‏

ولكن الله لطيف بمن يشاء تبارك وتعالى، فاتفق له أن ضربه أبو لؤلؤة فيروز المجوسي الأصل، الرومي الدار، وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الصبح من يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة من هذه السنة، بخنجر ذات طرفين، فضربه ثلاث ضربات‏.‏

وقيل‏:‏ ست ضربات، إحداهن تحت سرته قطعت السفاق، فخر من قامته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 155‏)‏

واستخلف عبد الرحمن بن عوف، ورجع العلج بخنجره لا يمر بأحد إلا ضربه، حتى ضرب ثلاثة عشر رجلاً مات منهم ستة، فألقى عليه عبد الله بن عوف برنساً فانتحر نفسه، لعنه الله‏.‏

وحمل عمر إلى منزله والدم يسيل من جرحه - وذلك قبل طلوع الشمس - فجعل يفيق ثم يغمى عليه، ثم يذكرونه بالصلاة فيفيق، ويقول‏:‏ نعم‏.‏

ولا حظَّ في الإسلام لمن تركها‏.‏

ثم صلى في الوقت، ثم سأل عمن قتله من هو‏؟‏

فقالوا له‏:‏ أبو لؤلؤة، غلام المغيرة بن شعبة‏.‏

فقال‏:‏ الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على يدي رجل يدعي الإيمان، ولم يسجد لله سجدة‏.‏

ثم قال‏:‏ قبحه الله، لقد كنا أمرنا به معروفاً - وكان المغيرة قد ضرب عليه في كل يوم درهمين ثم سأل من عمر أن يزيد في خراجه فإنه نجار نقاش حداد، فزاد في خراجه إلى مائة في كل شهر -‏.‏

وقال له‏:‏ لقد بلغني أنك تحسن أن تعمل رحاً تدور بالهواء‏؟‏

فقال أبو لؤلؤة‏:‏ أما والله لأعملن لك رحاً يتحدث عنها الناس في المشارق والمغارب - وكان هذا يوم الثلاثاء عشية - وطعنه صبيحة الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة‏.‏

وأوصى عمر‏:‏ أن يكون الأمر شورى بعده في ستة ممن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنهم وهم‏:‏ عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص‏.‏

ولم يذكر سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي فيهم، لكونه من قبيلته، خشية أن يراعي في الإمارة بسببه، وأوصى من يستخلف بعده بالناس خيراً على طبقاتهم ومراتبهم، ومات رضي الله عنه بعد ثلاث، ودفن يوم الأحد، مستهل المحرم من سنة أربع وعشرين بالحجرة النبوية إلى جانب الصديق، عن إذن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في ذلك، وفي ذلك اليوم حكم أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه‏.‏

قال الواقدي رحمه الله‏:‏ حدثني أبو بكر بن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن أبيه قال‏:‏ طعن عمر يوم الأربعاء لأربع ليالٍ بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم، سنة أربع وعشرين، فكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر وإحدى وعشرين يوماً، وبويع لعثمان يوم الاثنين، لثلاث مضين من المحرم‏.‏

قال‏:‏ فذكرت ذلك لعثمان الأخنس، فقال‏:‏ ما أراك إلا وهللت‏.‏

توفي عمر لأربع ليال بقين من ذي الحجة، وبويع لعثمان لليلة بقيت من ذي الحجة، فاستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين‏.‏

وقال أبو معشر‏:‏ قتل عمر لأربع بقين من ذي الحجة تمام سنة ثلاث وعشرين، وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام، وبويع عثمان بن عفان‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثت عن هشام بن محمد قال‏:‏ قتل عمر لثلاث بقين من ذي الحجة، سنة ثلاث وعشرين، فكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام‏.‏

وقال سيف‏:‏ عن خليد بن وفرة ومجالد قالا‏:‏ استخلف عثمان لثلاث من المحرم، فخرج فصلى بالناس صلاة العصر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 156‏)‏

وقال علي بن محمد المدائني‏:‏ عن شريك، عن الأعمش - أو جابر الجعفي - عن عوف بن مالك الأشجعي، وعامر بن أبي محمد، عن أشياخ من قومه، وعثمان بن عبد الرحمن عن الزهري قال‏:‏ طعن عمر يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي الحجة، والقول الأول هو الأشهر‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 صفته رضي الله عنه

كان رجلاً طوالاً أصلع أعسر أيسر أحور العينين، آدم اللون، وقيل‏:‏ كان أبيض شديد البياض تعلوه حمرة أشنب الأسنان، وكان يصفر لحيته، ويرجل رأسه بالحناء‏.‏

واختلف في مقدار سنه يوم مات رضي الله عنه على أقوال عدتها - عشرة -‏.‏

فقال ابن جرير‏:‏ حدثنا زيد بن أحزم، ثنا أبو قتيبة، عن جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ قتل عمر بن الخطاب، وهو ابن خمس وخمسين سنة‏.‏

ورواه الدرواردي عن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر‏.‏

وقاله عبد الرزاق عن، ابن جريج، عن الزهري‏.‏

ورواه أحمد، عن هشيم، عن علي بن زيد، عن سالم بن عبد الله بن عمر، وعن نافع رواية أخرى ست وخمسون سنة‏.‏

قال ابن جرير، وقال آخرون‏:‏ كان عمره ثلاث وخمسين سنة، حدثت بذلك عن هشام بن محمد‏.‏

ثم روى عن عامر الشعبي‏:‏ أنه توفي وله ثلاث وستون سنة‏.‏

قلت‏:‏ وقد تقدم في عمر الصديق مثله، وروي عن قتادة أنه قال‏:‏ توفي عمر وهو ابن إحدى وستين سنة‏.‏

وعن ابن عمر والزهري‏:‏ خمس وستون‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ ست وستون‏.‏

وروى ابن جرير عن أسلم مولى عمر أنه قال‏:‏ توفي وهو ابن ستين سنة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وهذا أثبت الأقاويل عندنا‏.‏

وقال المدائني‏:‏ توفي عمر، وهو ابن سبع وخمسين سنة‏.‏

 ذكر زوجاته وأبنائه وبناته

قال الواقدي، وابن الكلبي، وغيرهما‏:‏ تزوج عمر في الجاهلية زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن الأكبر، وحفصة رضي الله عنهم‏.‏

وتزوج مليكة بنت جرول فولدت له عبيد الله فطلقها في الهدنة، فخلف عليها أبو الجهم بن حذيفة، قاله المدائني‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ هي أم كلثوم بنت جرول فولدت له عبيد الله، وزيداً الأصغر‏.‏

قال المدائني‏:‏ وتزوج قريبة بنت أبي أمية المخزومي ففارقها في الهدنة، فتزوجها بعده عبد الرحمن بن أبي بكر‏.‏

قالوا‏:‏ وتزوج أم حكيم بنت الحارث بن هشام بعد زوجها - حين قتل في الشام - فولدت له فاطمة‏.‏

ثم طلقها قال المدائني، وقيل‏:‏ لم يطلقها‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 157‏)‏

قالوا‏:‏ وتزوج جميلة بنت عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح من الأوس‏.‏

وتزوج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت قبله عند عبد الله بن أبي مليكة، ولما قتل عمر تزوجها بعده الزبير بن العوام رضي الله عنهم، ويقال‏:‏ هي أم ابنه عياض فالله أعلم‏.‏

قال المدائني‏:‏ وكان قد خطب أم كلثوم ابنة أبي بكر الصديق وهي صغيرة وراسل فيها عائشة‏.‏

فقالت أم كلثوم‏:‏ لا حاجة لي فيه، فقالت عائشة‏:‏ أترغبين عن أمير المؤمنين ‏؟‏‏.‏

قالت‏:‏ نعم، إنه خشن العيش‏.‏

فأرسلت عائشة إلى عمرو بن العاص فصده عنها ودله على أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، ومن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ تعلق منها بسبب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبها من علي فزوجه إياها، فأصدقها عمر رضي الله عنه أربعين ألفاً، فولدت له زيداً ورقية‏.‏

قالوا‏:‏ وتزوج لهية - امرأة من اليمن - فولدت له عبد الرحمن الأصغر، وقيل‏:‏ الأوسط‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ هي أم ولد وليست زوجة‏.‏

قالوا‏:‏ وكانت عنده فكيهة أم ولد فولدت له زينب‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وهي أصغر ولده‏.‏

قال الواقدي‏:‏ وخطب أم أبان بنت عتبة بن شيبة فكرهته وقالت‏:‏ يغلق بابه ويمنع خيره ويدخل عابساً ويخرج عابساً‏.‏

قلت‏:‏ فجملة أولاده رضي الله عنه وأرضاه ثلاثة عشر ولداً، وهم‏:‏ زيد الأكبر، وزيد الأصغر، وعاصم، وعبد الله، وعبد الرحمن الأكبر، وعبد الرحمن الأوسط قال الزبير بن بكار‏:‏ وهو أبو شحمة، وعبد الرحمن الأصغر، وعبيد الله، وعياض، وحفصة، ورقية، وزينب، وفاطمة رضي الله عنهم‏.‏

ومجموع نسائه اللاتي تزوجهن في الجاهلية والإسلام ممن طلقهن أو مات عنهن سبع، وهن‏:‏ جميلة بنت عاصم بن ثابت بن الأقلح، وزينب بنت مظعون، وعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وقريبة بنت أبي أمية، ومليكة بنت جرول، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام، وأم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وأم كلثوم أخرى وهي‏:‏ مليكة بنت جرول‏.‏

وكانت له أمتان له منهما أولاد، هما‏:‏ فكيهة، ولهية، وقد اختلف في لهية هذه، فقال بعضهم‏:‏ كانت أم ولد وقال بعضهم‏:‏ كان أصلها من اليمن وتزوجها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب‏.‏ فالله أعلم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 158‏)‏

 ذكر بعض ما رثي به

قال علي بن محمد المدائني‏:‏ عن ابن داب وسعيد بن خالد، عن صالح بن كيسان، عن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ لما مات عمر بكته ابنة أبي خيثمة فقالت‏:‏ واعمراه، أقام الأود وأبرَّ العهد، أمات الفتن وأحيا السنن، خرج نقي الثوب برياً من العيب‏.‏

قال‏:‏ فقال علي بن أبي طالب‏:‏ والله لقد صدقت، ذهب بخيرها، ونجا من شرها، أما والله ما قالت ولكن قولت‏.‏

وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل في زوجها عمر‏:‏

فجعني فيروز لا در دره * بأبيض تال للكتاب منيب

رؤوف على الأدنى غليظ على العدى * أخى ثقة في النائبات نجيب

متى ما يقل لا يكذب القول فعله * سريع إلى الخيرات غير قطوب

وقالت أيضاً‏:‏

عين جودي بعبرة ونحيب * لا تملي على الإمام النجيب

فجعتنا المنون بالفارس العيـ * ـلم يوم الهياج والتلبيب

عصمة الناس والمعين على الدهـ * ـر وغيث المنتاب والمحروب

قل لأهل السراء والبؤس موتوا * قد سقته المنون كأس سغوب

وقالت امرأة من المسلمين تبكيه‏:‏

سيبكيك نساء الحـ * ـي يبكين شجيات

ويخمشن وجوهاً * كالدنانير نقيات

ويلبسن ثياب الحز * ن بعد القصبيات

وقد ذكر ابن جرير ترجمة طويلة لعمر بن الخطاب، وكذلك أطال ابن الجوزي في سيرته، وشيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في ‏(‏تاريخه‏)‏، وقد جمعنا متفرقات كلام الناس في مجلد مفرد، وأفردنا لما أسنده وروي عنه من الأحكام مجلداً آخر كبيراً مرتباً على أبواب الفقه ولله الحمد‏.‏

 قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة توفي قتادة بن النعمان‏.‏

وفيها‏:‏ غزا معاوية الصائفة حتى بلغ عمورية ومعه من الصحابة عبادة بن الصامت، وأبو أيوب، وأبو ذر، وشداد بن أوس‏.‏

وفيها‏:‏ فتح معاوية عسقلان صلحاً‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ كان على قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة كعب بن سوار، قال‏:‏ وأما مصعب الزبيري، فإنه ذكر أن مالكاً روى عن الزهري أن أبا بكر وعمر لم يكن لهما قاضٍ‏.‏

وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبي في ‏(‏تاريخه‏)‏ في سنة ثلاث وعشرين‏.‏

فيها‏:‏ كانت قصة سارية بن زنيم‏.‏

وفيها‏:‏ فتحت كرمان، وأميرها سهيل بن عدي‏.‏

وفيها‏:‏ فتحت سجستان، وأميرها عاصم بن عمرو‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 159‏)‏

وفيها‏:‏ فتحت مكران، وأميرها الحكم بن أبي العاص أخو عثمان، وهي من بلاد الجبل‏.‏

وفيها‏:‏ رجع أبو موسى الأشعري من بلاد أصبهان، وقد افتتح بلادها‏.‏

وفيها‏:‏ غزا معاوية الصائفة حتى بلغ عمورية‏.‏

ثم ذكر وفاة من مات فيها‏.‏

فمنهم‏:‏ قتادة بن النعمان الأنصاري الأوسي الظفري أخو أبي سعيد الخدري لأمه، وقتادة أكبر منه، شهد بدراً وأصيبت عينه في يوم أحد حتى وقعت على خده فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت أحسن عينيه، وكان من الرماة المذكورين، وكان على مقدمة عمر حين قدم إلى الشام، توفي في هذه السنة على المشهور عن خمس وستين سنة‏.‏

ونزل عمر في قبره، وقيل‏:‏ أنه توفي في التي قبلها‏.‏

ثم ذكر ترجمة عمر بن الخطاب فأطال فيها، وأكثر وأطنب، وأتى بمقاصد كثيرة مهمة، وفوائد جمة، وأشياء حسنة، فأثابه الله الجنة‏.‏

 ثم قال‏:‏ ذكر من توفي في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏

الأقرع بن حابس

ابن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم التميمي المجاشعي‏.‏

قال ابن دريد‏:‏ واسمه فراس بن حابس، ولقب‏:‏ بالأقرع، لقرع في رأسه، وكان أحد الرؤساء، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وفد بني تميم، وهو الذي نادى من وراء الحجرات‏:‏ يا محمد إن مدحي زين، وذمي شين، وهو القائل - وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن - أتقبله ‏؟‏‏!‏ والله إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏ما أملك إن نزع الله الرحمة من قلبك‏)‏‏)‏‏.‏

وكان ممن تألفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه يوم حنين مائة من الإبل، وكذلك لعيينة بن حصن الفزاري، وأعطى عباس بن مرداس خمسين من الإبل فقال‏:‏

أتجعل نهبي ونهب العبيـ * ـد بين عيينة والأقرع

فما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في مجمع

وما كنت دون امرئ منهما * ومن يخفض اليوم لا يرفع

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏أنت القائل‏:‏

أتجعل نهبي ونهب العبيـ * ـد بين عيينة والأقرع‏)‏‏)‏‏.‏

رواه البخاري قال السهيلي‏:‏ إنما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الأقرع قبل عيينة لأن الأقرع كان خيراً من عيينة، ولهذا لم يرتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم كما ارتد عيينة، فبايع طليحة وصدقه، ثم عاد‏.‏

والمقصود‏:‏ أن الأقرع كان سيداً مطاعاً، وشهد مع خالد وقائعه بأرض العراق، وكان على مقدمته يوم الأنبار‏.‏

ذكره شيخنا فيمن توفي في خلافة عمر بن الخطاب‏.‏

والذي ذكره ابن الأثير في الغابة‏:‏ أنه استعمله عبد الله بن عامر على جيش، وسيره إلى الجوزجان فقتل وقتلوا جميعاً، وذلك في خلافة عثمان كما سيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏

حباب من المنذر

ابن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة أبو عمر، ويقال‏:‏ أبو عمرو الأنصاري الخزرجي السلمي‏.‏

ويقال له‏:‏ ذو الرأي لأنه أشار يوم بدر أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أدنى ماء يكون إلى القوم، وأن يغور ما وراءهم من القلب، فأصاب في هذا الرأي، ونزل الملك بتصديقه‏.‏

وأما قوله يوم السقيفة‏:‏ إنا جذيلها المحكك، ومزيجها المرجب، منا أمير ومنكم أمير‏.‏ فقد رده عليه الصديق والصحابة‏.‏

ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب

عتبة بن مسعود الهذلي، هاجر مع أخيه لأبويه، عبد الله إلى الحبشة شهد أحداً وما بعدها‏.‏

قال الزهري‏:‏ ما كان عبد الله بأفقه منه، ولكن مات عتبة قبله، وتوفي زمن عمر على الصحيح، ويقال‏:‏ في زمن معاوية سنة أربع وأربعين‏.‏

علقمة بن علاثة

ابن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة العامري الكلابي، أسلم عام الفتح، وشهد حنيناً وأعطي يومئذ مائة من الإبل تأليفاً لقلبه‏.‏

وكان يكون بتهامة وكان شريفاً مطاعاً في قومه، وقد ارتد أيام الصديق، فبعث إليه سرية فانهزم ثم أسلم وحسن إسلامه، ووفد على عمر في خلافته، وقدم دمشق في طلب ميراث له ثَمَّ، ويقال‏:‏ استعمله عمر على حوران فمات بها، وقد كان الحطيئة قصده ليمتدحه فمات قبل مقدمه بليالٍ، فقال‏:‏

فما كان بيني لو لقيتك سالماً * وبين الغنى إلا ليال قلائل

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 161‏)‏

علقمة بن مجزز

ابن الأعور بن جعدة بن معاذ بن عتوارة بن عمرو بن مدلج الكناني المدلجي، أحد أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، على بعض السرايا، وكانت فيه دعابة، فأجج ناراً، وأمر أصحابه أن يدخلوا فيها، فامتنعوا‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لو دخلوا فيها ما خرجوا منها‏)‏‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏‏(‏إنما الطاعة في المعروف‏)‏‏)‏‏.‏

وقد كان علقمة جواداً ممدحاً، رثاه جواس العذري، فقال‏:‏

إن السلام وحسن كل تحية * تغدو على ابن مجزز وتروحُ

عويم بن ساعدة

ابن عباس، أبو عبد الرحمن الأنصاري الأوسي، أحد بني عمرو بن عوف، شهد العقبة، وبدراً وما بعدها‏.‏

له حديث عند أحمد، وابن ماجة في الاستنجاء بالماء‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ توفي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقيل‏:‏ في خلافة عمر، وقال‏:‏ وهو واقف على قبره لا يستطيع أحد أن يقول‏:‏ أنا خير من صاحب هذا القبر، ما نصبت راية للنبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو واقف تحتها‏.‏

وقد روى هذا الأثر ابن أبي عاصم كما أورده ابن الأثير من طريقه‏.‏

غيلان بن سلمة الثقفي

أسلم عام الفتح على عشر نسوة، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعاً، وقد وفد قبل الإسلام على كسرى، فأمره أن يبني له قصراً بالطائف‏.‏

وقد سأله كسرى‏:‏ أي ولدك أحب إليك ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم‏.‏

فقال له كسرى‏:‏ أنى لك هذا‏؟‏ هذا كلام الحكماء‏.‏

قال‏:‏ فما غذائك ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ البر‏.‏

قال‏:‏ نعم، هذا من البر لا من التمر واللبن‏.‏

معمر بن الحارث

ابن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي، أخو حاطب وحطاب‏.‏

أمهم‏:‏ قيلة بنت مظعون، أخت عثمان بن مظعون‏.‏

أسلم معمر قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وشهد بدراً وما بعدها، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين معاذ بن عفراء‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 162‏)‏

ميسرة بن مسروق العبسي

شيخ صالح قيل‏:‏ إنه صحابي شهد اليرموك، ودخل الروم أميراً على جيش ستة آلاف، وكانت له همة عالية، فقتل وسبي وغنم وذلك في سنة عشرين‏.‏

وروى عن أبي عبيدة، وعنه أسلم مولى عمر لم يذكره ابن الأثير في ‏(‏الغابة‏)‏‏.‏

واقد بن عبد الله

بن عبد مناف بن عرين الحنظلي اليربوعي حليف بني عدي بن كعب، أسلم قبل دخول النبي دار الأرقم، وشهد بدراً وما بعدها، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين بشر من البراء بن معرور، وهو أول من قتل في سبيل الله عز وجل ببطن نخلة، مع عبد الله بن جحش حين قتل عمرو بن الحضرمي، توفي في خلافة عمر رضي الله عنه‏.‏

أبو خراش الهذلي الشاعر

واسمه خويلد بن مرة، كان يسبق الخيل على قدميه، وكان فَتاكاً في الجاهلية، ثم أسلم وحسن إسلامه‏.‏

وتوفي في زمن عمر، أتاه حجاج فذهب يأتيهم بماء فنهشته حية، فرجع إليهم بالماء وأعطاهم شاة وقدراً، ولم يعلمهم بما جرى له، فأصبح فمات فدفنوه‏.‏

ذكره ابن عبد البر وابن الأثير في ‏(‏أسماء الصحابة‏)‏‏.‏

والظاهر‏:‏ أنه ليست له وفادة، وإنما أسلم في حياة النبي فهو مخضرم والله أعلم‏.‏

أبو ليلى عبد الرحمن

ابن كعب بن عمرو الأنصاري شهد أحداً وما بعدها، إلا تبوك فإنه تخلف لعذر الفقر، وهو أحد البكائين المذكورين‏.‏

سودة بنت زمعة

القرشية العامرية أم المؤمنين، أول من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها، وكانت صوامة قوامة‏.‏

ويقال‏:‏ كان في خلقها حدة، وقد كبرت، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفارقها - ويقال‏:‏ بل فارقها - فقالت‏:‏ يا رسول الله لا تفارقني وأنا أجعل يومي لعائشة، فتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصالحها على ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 163‏)‏

وفي ذلك أنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 128‏]‏‏.‏

قالت عائشة‏:‏ نزلت في سودة بنت زمعة‏.‏ توفيت في خلافة عمر بن الخطاب‏.‏

هند بنت عتبة

يقال‏:‏ ماتت في خلافة عمر‏.‏

وقيل‏:‏ توفيت قبل ذلك كما تقدم فالله أعلم‏.‏

 خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ثم استهلت سنة أربع وعشرين

ففي أول يوم منها‏:‏ دفن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك يوم الأحد في قول، وبعد ثلاث أيام بويع أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه‏.‏

كان عمر رضي الله عنه قد جعل الأمر بعده شورى بين ستة نفر، وهم‏:‏ عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، وتحرج أن يجعلها لواحد من هؤلاء على التعيين‏.‏

وقال‏:‏ لا أتحمل أمرهم حياً وميتاً، وإن يرد الله بكم خيراً يجمعكم على خير هؤلاء، كما جمعكم على خيركم بعد نبيكم صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومن تمام ورعة لم يذكر في الشورى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل لأنه ابن عمه، خشي أن يراعى فيولى لكونه ابن عمه، فلذلك تركه‏.‏

وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، بل جاء في رواية المدائني عن شيوخه‏:‏ أنه استثناه من بينهم، وقال‏:‏ لست مدخله فيهم‏.‏

وقال لأهل الشورى‏:‏ يحضركم عبد الله - يعني‏:‏ ابنه - وليس إليه من الأمر شيء - يعني‏:‏ بل يحضر الشورى ويشير بالنصح ولا يولي شيئاً - وأوصى أن يصلي بالناس صهيب بن سنان الرومي ثلاثة أيام حتى تنقضي الشورى، وأن يجتمع أهل الشورى ويوكل بهم أناس حتى ينبرم الأمر، ووكل بهم خمسين رجلاً من المسلمين، وجعل عليهم مستحثاً أبا طلحة الأنصاري، والمقداد بن الأسود الكندي‏.‏

وقد قال عمر بن الخطاب‏:‏ ما أظن الناس يعدلون بعثمان وعلي أحداً، إنهما كانا يكتبان الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينزل به جبريل عليه‏.‏

قالوا‏:‏ فلما مات عمر رضي الله عنه، وأحضرت جنازته تبادر إليها علي وعثمان أيهما يصلي عليه، فقال لهما عبد الرحمن بن عوف‏:‏ لستما من هذا في شيء، إنما هذا إلى صهيب الذي أمره عمر أن يصلي بالناس‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 164‏)‏

فتقدم صهيب وصلى عليه، ونزل في قبره مع ابنه عبد الله أهل الشورى سوى طلحة فإنه كان غائباً، فلما فرغ من شأن عمر جمعهم المقداد بن الأسود في بيت المسور بن مخرمة‏.‏

وقيل‏:‏ في حجرة عائشة‏.‏

وقيل‏:‏ في بيت المال‏.‏

وقيل‏:‏ في بيت فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس، والأول أشبه والله أعلم‏.‏

فجلسوا في البيت وقام أبو طلحة يحجبهم، وجاء عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة فجلسا من وراء الباب، فحصبهم سعد بن أبي وقاص وطردهما، وقال‏:‏ جئتما لتقولا حضرنا أمر الشورى ‏؟‏

رواه المدائني عن مشايخه والله أعلم بصحته‏.‏

والمقصود‏:‏ أن القوم خلصوا من الناس في بيت يتشاورون في أمرهم فكثر القول وعلت الأصوات، وقال أبو طلحة‏:‏ إني كنت أظن أن تدافعوها ولم أكن أظن أن تنافسوها، ثم صار الأمر بعد حضور طلحة إلى أن فوض ثلاثة منهم مالهم في ذلك إلى ثلاثة، ففوض الزبير ما يستحقه من الإمارة إلى علي، وفوض سعد ماله في ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف، وترك طلحة حقه إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه‏.‏

فقال عبد الرحمن لعلي وعثمان‏:‏ أيكما يبرأ من هذا الأمر فنفوض الأمر إليه والله عليه والإسلام ليولين أفضل الرجلين الباقيين‏.‏

فأسكت الشيخان علي وعثمان، فقال عبد الرحمن‏:‏ إني أترك حقي من ذلك والله علي الإسلام أن أجتهد فأولي أولاكما بالحق، فقالا‏:‏ نعم ‏!‏‏.‏

ثم خاطب كل واحد منهما بما فيه من الفضل، وأخذ عليه العهد والميثاق لئن ولاه ليعدلن ولئن ولي عليه ليسمعن وليطيعن‏.‏

فقال كل منهما‏:‏ نعم ‏!‏‏.‏ ثم تفرقوا‏.‏

ويروى‏:‏ أن أهل الشورى جعلوا الأمر إلى عبد الرحمن ليجتهد للمسلمين في أفضلهم ليوليه، فيذكر أنه سأل من يمكنه سؤاله من أهل الشورى وغيرهم فلا يشير إلا بعثمان بن عفان، حتى أنه قال لعلي‏:‏ أرأيت إن لم أولك بمن تشير به عليَّ ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ بعثمان‏.‏

وقال لعثمان‏:‏ أرأيت إن لم أولك بمن تشير به ‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ بعلي بن أبي طالب‏.‏

والظاهر‏:‏ أن هذا كان قبل أن ينحصر الأمر في ثلاثة، وينخلع عبد الرحمن منها ينظر الأفضل، والله عليه والإسلام ليجتهدن في أفضل الرجلين فيوليه‏.‏

ثم نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما، ويجمع رأي المسلمين برأي رؤس الناس وأقيادهم جميعاً وأشتاتاً مثنى وفرادى ومجتمعين، سراً وجهراً، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب‏.‏

وحتى سأل من يرد بمن الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان في تقدم عثمان بن عفان إلا ما ينقل عن عمار والمقداد أنهما أشارا بعلي بن أبي طالب، ثم بايعا مع الناس على ما سنذكره‏.‏

فسعى في ذلك عبد الرحمن ثلاثة أيام بلياليها لا يغتمض بكثير نوم إلا صلاة ودعاءاً واستخارةً، وسؤالاً من ذوي الرأي عنهم، فلم يجداً أحداً يعدل بعثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما كانت الليلة يسفر صباحها عن اليوم الرابع من موت عمر بن الخطاب، جاء إلى منزل ابن أخته المسور بن مخرمة فقال‏:‏ أنائم يا مسور، والله لم أغتمض بكثير نوم منذ ثلاث اذهب فادع إليَّ علياً وعثمان‏.‏

قال المسور‏:‏ فقلت‏:‏ بأيهما أبدأ‏؟‏

فقال‏:‏ بأيهما شئت‏.‏

قال‏:‏ فذهبت إلى علي فقلت‏:‏ أجب خالي، فقال‏:‏ أمرك أن تدعو معي أحداً‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/ 165‏)‏

قلت‏:‏ نعم ‏!‏‏.‏

قال‏:‏ من ‏؟‏

قلت‏:‏ عثمان بن عفان‏.‏

قال‏:‏ بأينا بدأ‏؟‏

قلت‏:‏ لم يأمرني بذلك، بل قال‏:‏ ادع لي أيهما شئت أولاً، فجئت إليك، قال‏:‏ فخرج معي فلما مررنا بدار عثمان بن عفان جلس عليَّ حتى دخلت فوجدته يوتر مع الفجر، فقال لي كما قال لي علي سواء، ثم خرج فدخلت بهما على خالي وهو قائم يصلي، فلما انصرف أقبل على علي وعثمان، فقال‏:‏ إني قد سألت الناس عنكما، فلم أجد أحداً يعدل بكما أحداً، ثم أخذ العهد على كل منهما أيضاً لئن ولاه ليعدلن، ولئن ولي عليه ليسمعن وليطيعن، ثم خرج بهما إلى المسجد وقد لبس عبد الرحمن العمامة التي عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقلد سيفاً، وبعث إلى وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ونودي في الناس عامة الصلاة جامعة، فامتلأ المسجد حتى غص بالناس، وتراص الناس وتراصوا حتى لم يبق لعثمان موضع يجلس إلا في أخريات الناس - وكان رجلاً حيياً رضي الله عنه -‏.‏

ثم صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف وقوفاً طويلاً، ودعا دعاءً طويلاً لم يسمعه الناس ثم تكلم فقال‏:‏ أيها الناس، إني سألتكم سراً وجهراً بأمانيكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين، إما علي وأما عثمان، فقم إلي يا علي فقام إليه فوقف تحت المنبر، فأخذ عبد الرحمن بيده، فقال‏:‏ هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر‏؟‏

قال‏:‏ اللهم لا ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، قال‏:‏ فأرسل يده، وقال‏:‏ قم إلي يا عثمان، فأخذ بيده فقال‏:‏ هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر‏؟‏

قال‏:‏ اللهم نعم‏!‏

قال‏:‏ فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان فقال‏:‏ اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد خلعت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان‏.‏

قال‏:‏ وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه تحت المنبر، قال‏:‏ فقعد عبد الرحمن مقعد النبي صلى الله عليه وسلم وأجلس عثمان تحته على الدرجة الثانية وجاء إليه الناس يبايعونه، وبايعه علي بن أبي طالب أولاً، ويقال‏:‏ آخراً‏.‏

وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره عن رجال لا يعرفون أن علياً قال لعبد الرحمن‏:‏ خدعتني، وإنك إنما وليته لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه، وأنه تلكأ حتى قال له عبد الرحمن‏:‏ ‏{‏فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ إلى غير ذلك من الأخبار المخالفة لما ثبت في الصحاح، فهي مردودة على قائليها وناقلها والله أعلم‏.‏

والمظنون بالصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة وأغبياء القصاص الذين لا تميز عندهم بين صحيح الأخبار وضعيفها، ومستقيمها وسقيمها، ومبادها وقويمها، والله الموفق للصواب‏.‏

وقد اختلف علماء السير في اليوم الذي بويع فيه لعثمان بن عفان رضي الله عنه، فروى الواقدي عن شيوخه‏:‏ أنه بويع يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، واستقبل بخلافته المحرم سنة أربع وعشرين، وهذا غريب جداً‏.‏

وقد روى الواقدي أيضاً، عن ابن جرير، عن ابن أبي مليكة قال‏:‏ بويع لعثمان بن عفان لعشر خلون من المحرم بعد مقتل عمر بثلاث ليال، وهذا أغرب من الذي قبله‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/166‏)‏

وكذا روى سيف بن عمر، عن عامر الشعبي أنه قال‏:‏ اجتمع أهل الشورى على عثمان لثلاث خلون من المحرم سنة أربع وعشرين، وقد دخل وقت العصر، وقد أذن مؤذن صهيب، واجتمع الناس بين الأذان والإقامة فخرج فصلى بهم العصر‏.‏

وقال سيف‏:‏ عن خليفة بن زفر ومجالد قالا‏:‏ استخلف عثمان لثلاث خلون من المحرم سنة ثلاث وعشرين فخرج فصلى بالناس العصر، وزاد الناس - يعني‏:‏ في أعطياتهم مائة - ووفد أهل الأمصار، وهو أول من صنع ذلك‏.‏

قلت‏:‏ ظاهر ما ذكرناه من سياق بيعته يقتضي أن ذلك كان قبل الزوال، لكنه لما بايعه الناس في المسجد ذهب به إلى دار الشورى على ما تقدم فيها من الخلاف، فبايعه بقية الناس، وكأنه لم يتم البيعة إلا بعد الظهر وصلى صهيب يومئذ الظهر في المسجد النبوي وكان أول صلاة صلاها الخليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان بالمسلمين صلاة العصر، كما ذكره الشعبي وغيره‏.‏

وأما أول خطبة خطبها بالمسلمين، فروى سيف بن عمر، عن بدر بن عثمان، عن عمه قال‏:‏ لما بايع أهل الشورى عثمان خرج وهو أشدهم كآبه، فأتى منبر النبي صلى الله عليه وسلم فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ إنكم في دار قلعة وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أتيتم صبحتم أو مسيتم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، واعتبروا بمن مضى ثم جدوا ولا تغفلوا فإنه لا يغفل عنكم‏.‏

أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومتعوا بها طويلاً‏؟‏ ألم تلفظهم‏؟‏ ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة فإن الله قد ضرب لها مثلاً، بالذي هو خير، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 45-46‏]‏‏.‏

قال‏:‏ وأقبل الناس يبايعونه‏.‏

قلت‏:‏ وهذه الخطبة‏:‏ إما بعد صلاة العصر يومئذٍ، أو قبل الزوال، وعبد الرحمن بن عوف جالس في رأس المنبر وهو الأشبه والله أعلم‏.‏

وما يذكره بعض الناس من أن عثمان لما خطب أول خطبة ارتج عليه فلم يدر ما يقول حتى قال‏:‏ أيها الناس، إن أول مركب صعب، وإن بعد اليوم أياماً، وإن أعش فستأتيكم الخطبة على وجهها‏.‏

فهو شيء يذكره صاحب ‏(‏العقد‏)‏ وغيره، ممن يذكر طرف الفوائد، ولكن لم أر هذا بإسناد تسكن النفس إليه والله أعلم‏.‏

وأما قول الشعبي‏:‏ إنه زاد الناس مائة مائة - يعني‏:‏ في عطاء كل واحد من جند المسلمين - زاده على ما فرض له عمر مائة درهم من بيت المال، وكان عمر قد جعل لكل نفس من المسلمين في كل ليلة من رمضان درهماً من بيت المال يفطر عليه، ولأمهات المؤمنين درهمين درهمين، فلما ولي عثمان أقر ذلك وزاده، واتخذ سماطاً في المسجد أيضاً للمتعبدين، والمعتكفين، وأبناء السبيل، والفقراء، والمساكين رضي الله عنه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 7/167‏)‏

وقد كان أبو بكر إذا خطب يقوم على الدرجة التي تحت الدرجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عليها، فلما ولي عمر نزل درجة أخرى عن درجة أبي بكر رضي الله عنهما، فلما ولي عثمان قال‏:‏ إن هذا يطول فصعد إلى الدرجة التي كان يخطب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزاد الأذان الأول يوم الجمعة، قبل الأذان الذي كان يؤذن به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر‏.‏

وأما أول حكومة حكم فيها، فقضية عبيد الله بن عمر، وذلك أنه غدا على ابنة أبي لؤلؤة قاتل عمر فقتلها، وضرب رجلاً نصرانياً يقال له‏:‏ جفينة بالسيف فقتله، وضرب الهرمزان الذي كان صاحب تستر فقتله، وكان قد قيل‏:‏ إنهما مالآ أبا لؤلؤة على قتل عمر‏.‏ فالله أعلم‏.‏

وقد كان عمر قد أمر بسجنه ليحكم فيه الخليفة من بعده، فلما ولي عثمان وجلس للناس كان أول ما تحوكم إليه في شأن عبيد الله، فقال علي‏:‏ ما من العدل تركه، وأمر بقتله‏.‏

وقال بعض المهاجرين‏:‏ أيقتل أبوه بالأمس، ويقتل هو اليوم‏؟‏

فقال عمرو بن العاص‏:‏ يا أمير المؤمنين قد برأك الله من ذلك، قضية لم تكن في أيامك فدعها عنك، فودى عثمان رضي الله عنه أولئك القتلى من ماله، لأن أمرهم إليه، إذ لا وارث لهم إلا بيت المال، والإمام يرى الأصلح في ذلك، وخلى سبيل عبيد الله‏.‏

قالوا‏:‏ فكان زياد بن لبيد البياضي إذا رأى عبيد الله بن عمر يقول‏:‏

ألا يا عبيد الله مالك مهرب * ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر

أصبت دماً والله في غير حله * حراماً وقتل الهرمزان له خطر

على غير شيء غير أن قال قائل * أتتهمون الهرمزان على عمر

فقال سفيه والحوادث جمة * نعم اتهمه قد أشار وقد أمر

وكان سلاح العبد في جوف بيته * يقلبها والأمر بالأمر يعتبر

قال‏:‏ فشكا عبيد الله بن عمر زياداً إلى عثمان فاستدعى عثمان زياد بن لبيد، فأنشأ زياد يقول في عثمان‏:‏

أبا عمرو عبيد الله رهن * فلا تشكك بقتل الهرمزان

أتعفوا إذ عفوت بغير حق * فمالك بالذي يخلى يدان

قال‏:‏ فنهاه عثمان عن ذلك وزبره فسكت زياد بن لبيد عما يقول‏.‏

ثم كتب عثمان بن عفان إلى عماله على الأمصار أمراء الحرب، والأئمة على الصلوات، والأمناء على بيوت المال يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحثهم على طاعة الله وطاعة رسوله، ويحرضهم على الاتباع وترك الابتداع‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/168‏)‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة عزل عثمان المغيرة بن شعبة عن الكوفة، وولى عليها سعد بن أبي وقاص فكان أول عامل ولاه لأن عمر قال‏:‏ فإن أصابت الإمرة سعداً فذاك، وإلا فليستعن به أيكم ولي، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة‏.‏

فاستعمل سعداً عليها سنة وبعض أخرى، ثم رواه ابن جرير من طريق سيف، عن مجالد، عن الشعبي‏.‏

وقال الواقدي فيما ذكره‏:‏ عن زيد بن أسلم، عن أبيه‏:‏ أن عمر أوصى أن تقرَّ عماله سنة، فلما ولي عثمان أقر المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة، ثم عزله واستعمل سعداً، ثم عزله وولى الوليد بن عقبة بن أبي معيط‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ فعلى ما ذكره الواقدي تكون ولاية سعد على الكوفة سنة خمس وعشرين‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة - أعني‏:‏ سنة أربع وعشرين - غزا الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينية حين منع أهلها ما كانوا صالحوا عليه أهل الإسلام في أيام عمر بن الخطاب، وهذا في رواية أبي مخنف‏.‏

وأما في رواية غيره فإن ذلك كان في سنة ست وعشرين، ثم ذكر ابن جرير ههنا هذه الوقعة وملخصها‏:‏ أن الوليد بن عقبة سار بجيش الكوفة نحو أذربيجان وأرمينية حين نقضوا العهد، فوطئ بلادهم وأغار بأراضي تلك الناحية فغنم وسبى وأخذ أموالاً جزيلة، فلما أيقنوا بالهلكة صالحهم أهلها على ما كانوا صالحوا عليه حذيفة بن اليمان ثمانمائة ألف درهم في كل سنة، فقبض منهم جزية سنة ثم رجع سالماً غانماً إلى الكوفة، فمر بالموصل‏.‏

وجاءه كتاب عثمان وهو بها يأمره أن يمد أهل الشام على حرب أهل الروم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة جاشت الروم حتى خاف أهل الشام، وبعثوا إلى عثمان رضي الله عنه يستمدونه فكتب إلى الوليد بن عقبة‏:‏ أن إذا جاءك كتابي هذا فابعث رجلاً أميناً كريماً شجاعاً في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف إلى إخوانكم بالشام‏.‏

فقام الوليد بن عقبة في الناس خطيباً حين وصل إليه كتاب عثمان فأخبرهم بما أمر به أمير المؤمنين، وندب الناس وحثهم على الجهاد ومعاونة معاوية وأهل الشام، وأمَّرَ سلمان بن ربيعة على الناس الذين يخرجون إلى الشام، فانتدب في ثلاثة أيام ثمانية آلاف فبعثهم إلى الشام، وعلى جند المسلمين حبيب بن مسلم الفهري، فلما اجتمع الجيشان شنوا الغارات على بلاد الروم فغنموا وسبوا شيئاً كثيراً وفتحوا حصوناً كثيرة ولله الحمد‏.‏

وزعم الواقدي‏:‏ أن الذي أمد أهل الشام بسلمان بن ربيعة إنما هو سعيد بن العاص عن كتاب عثمان رضي الله عنه، فبعث سعيد بن العاص سلمان بن ربيعة في ستة آلاف فارس حتى انتهى إلى حبيب بن مسلمة، وقد أقبل إليه الموريان الرومي في ثمانين ألفاً من الروم والترك، وكان حبيب بن مسلمة شجاعاً شهماً فعزم على أن يبيت جيش الروم، فسمعته امرأته يقول للأمراء ذلك، فقالت له‏:‏ فأين موعدي معك‏؟‏ - تعني‏:‏ أين اجتمع بك غداً‏؟‏ -، فقال لها‏:‏ موعدك سرادق الموريان، أو الجنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 7/169‏)‏

ثم نهض إليهم في ذلك الليل بمن معه من المسلمين فقتل من أشرف له وسبقته امرأته إلى سرادق الموريان فكانت أول امرأة من العرب ضرب عليها سرادق وقد مات عنها حبيب بن مسلمة بعد ذلك، فخلف عليها بعده الضحاك بن قيس الفهري، فهي أم ولده‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ واختلف فيمن حج بالناس في هذه السنة، فقال الواقدي، وأبو معشر‏:‏ حج بهم عبد الرحمن بن عوف بأمر عثمان‏.‏

وقال آخرون‏:‏ حج بالناس عثمان بن عفان رضي الله عنه‏.‏

والأول هو الأشهر فإن عثمان لم يتمكن من الحج في هذه السنة لأجل رعاف أصابه مع الناس في هذه السنة حتى خشي عليه، وكان يقال لهذه السنة‏:‏ سنة الرعاف‏.‏

وفيها‏:‏ افتتح أبو موسى الأشعري الري بعد ما نقضوا العهد الذي كان واثقهم عليه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه‏.‏

وفيها‏:‏ توفي سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ويكنى‏:‏ بأبي سفيان، وكان ينزل قديداً وهو الذي اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن أريقط الديلي حين خرجوا من غار ثور قاصدين المدينة فأراد أن يردهم على أهل مكة لما جعلوا في كل واحد من النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر مائة مائة من الإبل، فطمع أن يفوز بهذا الجعل فلم يسلطه الله عليهم، بل لما اقترب منهم وسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخت قوائم فرسه في الأرض حتى ناداهم بالأمان فأعطوه الأمان، وكتب له أبو بكر كتاب أمان عن إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قدم به بعد غزوة الطائف فأسلم وأكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القائل‏:‏ يا رسول الله أعمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد‏؟‏

فقال له‏:‏ ‏(‏‏(‏بل لأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏